تم تعيين الإمام محمد عبده مفتيا للديار المصرية فى 3 يونيو سنة 1899 واستمر فيه إلى وفاته سنة 1905، أى قضى ست سنوات، وقد أصدر الإمام 944 فتوى.
ولم يكن الإمام مفتيا لمسلمى مصر فحسب، بل كان مفتيا لكل الشعب، بمختلف طوائفه وأديانه، فالأقباط يسألونه فى مشاكلهم المادية والأسرية، فكان يفتيهم، بل حاخامات اليهود أيضا كانوا يلتمسون فتواه، فمثلا جاءته فتوى عن وفاة مسيحى بمصر عن زوجته وأولاده، وترك لهم أطيانا وعقارات ونقدية، فما حصة كل منهم؟ وفتوى أخرى عن إسلام مسيحى ومات بعد أن حجب أولاده عن زوجته المسيحية، وتريد الزوجة ضمهم إليها حيث إنها لم تتزوج...

لكن جاءته فتوى شغلت صحافة مصر، وصحافة العالم الإسلامى، عدة أشهر باسم فتوى الترنسفال (وهم سكان إفريقيا الجنوبية).
سأل الحاج مصطفى الترنسفالى فى: لبس البرانيط، وذبح الكتابيين، هل يجوز الأكل منها رغم أنهم لم يسموا عليها..
أجاب الإمام محمد عبده:
"أما لبس البرنيطة، إذا لم يقصد فاعله الخروج من الإسلام والدخول فى دين غيره، فلا يعد مكفرا. وإذا كان اللبس لحاجة، من حجب شمس أو دفع مكروه أو تيسير مصلحة لم يكره ذلك، لزوال معنى التشبة بالمرة.
وأما الذبائح: فالذى أراه (الإمام) أن يأخذ المسلمون فى تلك الأطراف بنص كتاب الله تعالى فى قوله: "وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، فمتى كانت العادة عندهم إزهاق روح الحيوان بأى طريقة كانت، وكان يأكل منه، بعد الذبح، بعد رؤساء دينهم، ساغ للمسلم أكله، لأنه يقال له طعام أهل الكتاب، متى كان الذبح جاريا على عادتهم المسلمة عند رؤساء دينهم".
باختصار: هل لبس القبعة فى البلاد الحارة ومشاركة أهل الكتاب فى طعامهم حرام؟ والإجابة كما ذكر الإمام ليست حراما، لكن الخديو عباس الثانى ومن سخرهم من حملة الأقلام المأجورين يرون غير ذلك، مع أنهم جميعا يلبسون القبعات ويأكلون فى المطاعم الأوروبية وفى بيوت الأجانب!

ولأن الخديو عباس حلمي الثاني كان ينفق من أموال الأوقاف العامة على أوقاف أسرته وعلى مزارعه الخاصة، ولأن الخديو كان يريد إتمام صفقة تبادلية بين الأوقاف ورجل يونانى عرفت الصفقة باسم (أرض مشتهر) وأرض ديوان الأوقاف، وثبت من المعاينة أن هناك نقصا فى تقدير أحد البدلين وزيادة فى تقدير الآخر تبلغ جملتها خمسين ألف جنيه، فغضب الخديو وعزل من عزل، لكنه لم يستطع عزل الإمام الذى لم يرض عن هذه الصفقة المشبوهة، فأثرها فى نفسه، وسخط عليه، فانتهز هذه الفتوى، وشهر به لتنفير الناس منه وتأليبهم عليه مهما كان الضرر بالإسلام والمسلمين.
والأمر لم يقف عند هذا الحد، بل راحوا يلتهمون عرض الإمام، فلفقوا له صورة وهو فى حلبة الرقص يراقص فتاة أجنبية مع كلبها، ولم ينقصهم إلا والإمام يحتسى الخمر حتى يكتمل المشهد، ونزلت صورة الإمام – التلفيق – فى جريدة اسمها "حمارة منيتى" لم يسمع أحد عنها بعد ذلك.. وإلى قصة هذه الصورة أشار واحد منهم – اسمه اللقانى- فى بعض أبياته:
مكيدة لفقوها / بصورة مستعارة
ودبروها وكانوا / بقبة الاستشارة
ولطخوا بعد هذا / بالطين وجه الحمارة
ويقصد بالقبة قصر الأمير، لأنهم دبروا فيه التلفيقة، وتمت تبرئة الإمام من هذه التهم...
وقد تصدى صاحب المنار لكل هذه الترهات، ودافع عن الإمام فى مجلته، ومن أراد الاستزادة فعليه الرجوع إلى كتاب محمد رشيد رضا: تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده، خاصة الجزء الأول، والأعمال الكاملة للإمام محمد عبده تحقيق وتقديم الدكتور محمد عمارة، الجزء الخاص بالفتاوى، وكذلك كتاب: عبقرى الإصلاح والتعليم لعباس محمود العقاد، وكل الكتب التى تناولت حياة الإمام، فهذه قصة شهيرة لها أغراضها ومراميها التى لا تخفى على أحد.

حسين السيد
بتاريخ: 2025-11-25
يمنع أي لفظ يسيء للذات الالهية أو لأي دين كان أو طائفة أو جنسية.
جميع التعليقات يجب أن تكون باللغة العربية.
يمنع التعليق بألفاظ مسيئة.
الرجاء عدم الدخول بأي مناقشات سياسية.
سيتم حذف التعليقات التي تحوي إعلانات.
التعليقات ليست للتواصل مع إدارة الموقع أو المشرفين. للتواصل يرجى استخدام صفحة اتصل بنا.