أخر الأخبار » العربي

حرب الإبادة اللغوية

وقف دونالد ترامب أخيراً، بشعره البرتقالي المألوف وابتسامته الطالعة من أفلام رعاة البقر، ليقول للإعلام: "لقد حان الوقت لإيقاف الحرب في غزّة". وفي اليوم نفسه، كان نتنياهو يقف أمام عدسات الإعلام العالمي قائلاً: "جيشنا أنجز أهدافه وحماس ستدفع الثمن". وبعد أيّام، ها هو الكنيست يُصادق على مناقشة قانون فرض السيادة الإسرائيليّة على الضفّة الغربيّة المحتلّة. ثَمَّ إذن "يهودا والسامرة" أو "أرضُ المعاد" أو "إسرائيل الكبرى" فحسب. وثمّة في المقابل حماس، "الكيان المعادي المطلوب اجتثاثه". أين فلسطين؟ أين الفلسطينيّون؟ لا ذكر لهم إطلاقاً. وليس هذا الصمت زلّة لسان. إنه برنامج سياسيّ متناغم مع المعجم الذي يحكم العالم اليوم: تُمحى فلسطين حرفاً حرفاً، لتُمحى لاحقاً إنساناً إنساناً. قال جورج أورويل في روايته 1984: "من يسيطر على اللغة يسيطر على الفكر، ومِن ثمَّ يسيطر على المستقبل". ويبدو أنّ ثمّة من بات يستخدم هذه الرواية دليلاً في حرب الإبادة التي لا تتوقّف، حاذفاً فلسطين من الخطاب، لتكتمل الإبادة في الواقع بمعادلها الرمزي، وتُعاد هندسة الكلمات والمعاني بما يُنظّفُ المشهد من شوائب الضمير. كان ميشيل فوكو لمّاحاً حين أكّد أنّ "اللغة ليست أداة للتعبير بل هي نظام للسيطرة". والسيطرةُ اللغوية على الشرق الأوسط جزءٌ من السعي إلى سيطرةٍ أشمل على المخيّلة السياسية للعالم. هكذا ظنّ عرّابو هذه الشعبويّة المعربدة، أنّهم إذا منعوا الناس من نطق أيّ كلمة، كلمة حريّة مثلاً، فإنّهم يمنعونهم من التفكير فيها. وذهب في ظنّهم أن كلمة فلسطين مثلاً، حين لا تعود موجودة في الخطاب، سيتعوّد العالم على غيابها في الخريطة أيضاً. ما نراه اليوم هو انتقال الحرب من الأرض إلى المعجم. وبعد أن فشلت محاولات محو الفلسطينيين بالكامل من الجغرافيا، حان وقت محوهم من اللغة. ولعلّ أخطر ما في هذا النوع من الإبادة بالرموز، أنه لا يُحدِث ضجيجاً. العنف الرمزيّ، بتعبير بيار بورديو، هو أن تفرض على الناس طريقة جديدة لرؤية أنفسهم، حتى لو كانت ضدّهم. لا تقتصر حرب الإبادة عمّا تقوم به الترسانات الحربيّة، من قتل للأطفال في أحضان أمهاتهم وهدم للبيوت على رؤوس ساكنيها وتجويع للناس حدّ الموت. وقد سبق لكاتب هذه السطور أن توقّف عند حروب إبادة أخرى، مثل حربي الإبادة الصحيّة والإبادة المدرسيّة. وها نحن اليوم بين يدي حرب الإبادة اللغويّة، إذ ليس أخطر من أن تستهدف معنى "الأنا" في اللغة، أي في الذاكرة والهوية. ليس من وجودٍ للأنا إذا لم تُصرّح بوجودها ولم تمتلك مكانها عن طريق اللغة. وإذا استطاع عدوّك أن يطمس "أناك" في اللغة ذهب ذكرُك ومحي أثرُك وأصبحتَ غير موجود. وإنّ من مقدّمات ذلك أن توضع اللغةُ والمعنى في طريقين متوازيين، وأن تُجرّدَ المفرداتُ من مضامينها، وأن ينشأ شيئاً فشيئاً نظامٌ سياسي لغويٌّ "واقفٌ على رأسه" هدفُه الإسكاتُ والإعدامُ والمحو. بتلك الطريقة، يكتملُ قَتلُ الجسد بِقتل الخطاب وتتحقّقُ الإبادةُ الجسديّة بالإبادة اللغويّة. من ثمّ ضرورة المقاومة باللغة، لأنّ من يمسك باللغة يمسك بناصية وجوده على الأرض. أول ما يلفت النظر في هذه الحرب إلحاح "جنرالاتها" على التقليل من شأن توقيف الحرب بالقياس إلى مردود تعمير خرابها. بمعنى أنّ طولها واستمرارها لا يُعزيان فقط إلى حاجات أمنية أو استراتيجيّة أو أخلاقيّة، بل إلى تحقيق نتائج وأهداف أبعد من مجرّد تحرير الرهائن أو تأمين الحدود أو مناقشة الحقوق. المطلوب إعادة تشكيل الميدان وإنجاز المهمّة القذرة بحذافيرها: محو شعب وبناء "ريفييرات". هنا تبرز أهميّة الأداء اللغوي. ليست اللغة وسيلة توصيل أو سرد، بل هي أداة حربٍ لا تقلّ شراسة عن القنابل والطائرات والدبّابات. وليس هذا بالأمر الاعتباطيّ. إنّه جزء من مشروع ثقافيّ طويل المدى، يعمل على إعادة تشكيل وعي كونيّ، يلغي كلّ حضور فلسطيني من تاريخ الأرض المحتلّة، ومن جغرافياها، محاولاً إلغاء حقيقة الاحتلال ذاته، واختزال المسألة في أرض بلا شعب، يجوز الاستحواذ عليها وإعادة تسميتها. إنّها سرديّة متهافتة تحاول بناء زمنية منتهية لشعب "منتهٍ"، إن لم يكن بقايا شعب. وهذا ما نرى محاولة إنجازه اليوم: تواطؤٌ على إبادة الشعب الفلسطيني في الواقع يُكَمّلُ بالتواطؤ على إبادته في اللغة.
بتاريخ:  2025-10-26


التعليقات على الموقع تعكس آراء كتابها ولا تعكس آراء الموقع.
يمنع أي لفظ يسيء للذات الالهية أو لأي دين كان أو طائفة أو جنسية.
جميع التعليقات يجب أن تكون باللغة العربية.
يمنع التعليق بألفاظ مسيئة.
الرجاء عدم الدخول بأي مناقشات سياسية.
سيتم حذف التعليقات التي تحوي إعلانات.
التعليقات ليست للتواصل مع إدارة الموقع أو المشرفين. للتواصل يرجى استخدام صفحة اتصل بنا.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
يجب ملىء حقل الاسم.
يجب ملىء حقل العنوان.
يجب ملىء حقل الرساله.