أخر الأخبار » العربي

مُولد السيد البدوي وهذا الجدل المصري

"قُبة سِيدنا الولي دوول نوّروها. ما أحلى البيارق والناس بيزوروها. قُبة سيدنا الولي في الجو عالية. ما أحلى البيارق لمّا نوّروها".. سيّد مكاوي. لا تزال موالد الأولياء حاضرة في المجتمع المصري المعاصر، بل مثيرة للجدل، وإنْ تمتد بجذورها إلى التاريخ الاجتماعي، القديم والحديث على السواء، ففي كل عام من شهر أكتوبر/ تشرين الثاني تلتئم حشود مليونية لإحياء مولد السيد البدوي. ويعتقد الملايين من مريدي السيد وزواره أنه، رغم وفاته منذ 750 عاماً، ما زال حاضراً بروحه وكراماته، بل ينادونه ويتوسّلون إليه؛ وقد روى موظف البوسطة المصرية، محمد عمر، في كتابه الفريد "حاضر المصريين أو سر تأخرهم" (صدر عام 1902) مشهداً دالاً على عمق هذه المعتقدات الشعبية، بقوله: ويزعمون "أن السيد أحمد البدوي استنكف أخذ العهد من الشيخ الرفاعي، وصعد إلى السماء مؤملاً أخذ العهد من الرسول، صلى الله عليه وسلم، فسبقه الرفاعي ومدّ يده إليه فتناولها البدوي، وأخذ العهد منها، ثم قابله الرفاعي عند نزوله، وسأله ممن أخذ العهد، فقال له من الرسول، صلى الله عليه وسلم، فقال له أتعرف اليد التي قبضت عليها؟ قال نعم، فمدّ يده إليه قائلاً: أمثل هذه اليد؟. فلما تأمّلها البدوي كظم غيظه"... ويثق مُريدو السيد بتلك الحكايات التي تبدو أساطير غير معقولة، بل يروون المزيد منها، الأمر الذي يثير الصراع مع التيار السلفي. الصراع بين الجماعات الصوفية والجماعات الأصولية ظاهرة قديمة ومتأصّلة ولعلّ من الدقة القول إن الصراع بين الجماعات الصوفية والجماعات الأصولية ظاهرة قديمة ومتأصّلة، حتى قبل ظهور الفكر الوهابي أواسط القرن الثامن عشر. ويروي الجبرتي في "عجائب الآثار" طرفاً من ذلك الصراع في أحداث عام 1711 (ميلادية) عندما يتحدّث عن واعظ رومي قدم إلى مصر ووجد استحساناً في جامع المؤيد، ثم ما لبث أن "ذكر ما يفعله أهل مصر بضرائح الأولياء وإيقاد الشموع والقناديل عليها وشنع على ذلك وعلى من يقول بالاطلاع على اللوح المحفوظ. وذكر أنه لا يجوز بناء القباب على ضرائح الأولياء والتكايا ويجب هدم ذلك"، فلما وصل الخبر إلى شيوخ الأزهر أصدر الشيخ شهاب الدين النفراوي 1634-1714م فقيه المالكية بالأزهر فتوى "أن كرامات الأولياء لا تنقطع بالموت، وأن إنكاره اطلاع الأولياء على اللوح المحفوظ لا يجوز ويجب على الحاكم زجره عن ذلك". وكادت أن تكون فتنة عظيمة، إلا أن الباشا العثماني أمر بنفي الواعظ والقبض على أتباعه، وفي هذا أنشد الشيخ حسن الحجازي، أحد علماء الأزهر: والواعظ فر وقيل قُتل … وعليه الخزى قد استربض. ولم يتوقف الصراع بين الجانبين، بل يتجدّد كل عام وكل مُولد مع التئام مئات الآلاف، أو حتى الملايين. وبالعودة إلى التاريخ الاجتماعي سنجد مصادر تذكر أنه في عام 1950 ارتفعت أرقام زوار البدوي إلى أرقام قياسية، قاربت الثلاثة الملايين؛ أي إن أكثر من 14% من سكان مصر قد تجمّعوا في المُولد، وقد دأبت الدولة على احترام المولد وتوفير سُبل الأمان والشرعية، علاوة على زيارة كبار رجال الدولة، ورموز الأزهر ورجال الدين، وهو تقليد مستمرٌّ ولم ينقطع. الحركة الصوفية ليست راديكالية، ولا ذات مقاصد سياسية أو أيديولوجية وحتى نفهم ظاهرة المولد والاحتفاء الشديد بها ينبغي فهم مقاصد الفاعلين الذين ورثوا عادة الزيارة والتبرّك بالولي منذ مئات السنين؛ حيث حاجتهم إلى من يشتركون معهم في قيمهم ورؤاهم، الأمر الذي يخفّف عنهم وطأة أزماتهم الشخصية والاجتماعية، حيث تتبلور لديهم هوية جمعية تبنيها الحركة الصوفية، نظراً إلى سهولة الممارسات وجاذبيتها وانفتاحها لمشاركة أي شخص بدون فرز أو تمييز، فالجميع يتشاركون المكان والاحتفال، ما يجعل تلك التجربة وسيلة لتعزيز التسامي فوق مشكلاتهم وآلامهم. ويشكّل زوّار الموالد السواد الأعظم من جمهور السياحة الداخلية في مصر، إذ يطوفون مصر من أقصاها إلى أقصاها، في رحلات ذات طابع جمعي، يبحث الفرد عن الآخرين الذين يشملونه بالرعاية والمشاركة، خصوصاً أن الحركة الصوفية لا تدخل في صراعات سياسية أو أيديولوجية، بل تمنح جمهورها نوعاً من العزلة الآمنة عن العالم وتحدّياته، أو كما أطلق عليه عالم الاجتماع الفرنسي، إميل دوركايم، الانفعال الجمعي؛ عندما يشترك الناس في لحظة وجدانية مشتركة، تُذيب الحدود بينهم وتشيع إحساساً بالوحدة والتفاهم. ولأن الحركة الصوفية ليست راديكالية، ولا ذات مقاصد سياسية أو أيديولوجية، فهي تجد سهولة في العمل والاستمرار، ورغم الانتقادات الدينية والثقافية التي لم تنقطع منذ مطلع القرن العشرين، والتي تتهم مُنظمي المولد وروّاده تارة بالانحراف عن صحيح الدين، وتارة بالتخلف والجهل؛ فإن المولد يمثل فضاءً اجتماعياً مفتوحاً لدعم ملايين من بسطاء المصريين في رؤيتهم إلى العالم والحياة؛ فهو ليس ميداناً لتغيير الواقع الاجتماعي، بل آلة رمزية تُمكّن الناس من تجاوز آلامهم ومنحهم الأمل في إمكانية التعايش مع أزماتهم؛ حتى ولو على سبيل التحكّم الرمزي فيها عبر المشاركة الجمعية في طقوس التصوّف..
بتاريخ:  2025-10-26


التعليقات على الموقع تعكس آراء كتابها ولا تعكس آراء الموقع.
يمنع أي لفظ يسيء للذات الالهية أو لأي دين كان أو طائفة أو جنسية.
جميع التعليقات يجب أن تكون باللغة العربية.
يمنع التعليق بألفاظ مسيئة.
الرجاء عدم الدخول بأي مناقشات سياسية.
سيتم حذف التعليقات التي تحوي إعلانات.
التعليقات ليست للتواصل مع إدارة الموقع أو المشرفين. للتواصل يرجى استخدام صفحة اتصل بنا.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
يجب ملىء حقل الاسم.
يجب ملىء حقل العنوان.
يجب ملىء حقل الرساله.
الاكثر مشاهدة
للاعلى تشغيل / ايقاف للاسفل