أخر الأخبار » العربي

القوى المدنية في العراق.. فشل جديد أم بداية تحدٍّ؟

شكّلت انتخابات 2025 لحظة فارقة في مسار القوى المدنية في العراق. فهذه القوى، التي لطالما مثّلت صوت المطالبين بالدولة الحديثة والحوكمة الرشيدة، وجدت نفسها خارج مجلس النواب للمرة الأولى منذ قرابة عقد كامل. دخلت الانتخابات عبر تشكيلين أساسيين: تحالف البديل الذي قدّم مرشحين في معظم المحافظات، والتحالف المدني الديمقراطي الذي اقتصر حضوره على بغداد والناصرية. ومع ذلك، انتهت النتائج بلا مقعد واحد، على عكس حضورها في 2014 بثلاثة مقاعد، وفي 2018 بمقعدين، وفي انتخابات 2021 المرتبطة بحراك تشرين بأكثر من عشرة نواب. هذا التحول الكبير لا يمكن اختزاله في سوء حظ انتخابي؛ ما حدث يعكس أزمة أعمق في بنية العمل المدني ذاته، وفي الطريقة التي تتعامل بها هذه القوى مع المجتمع وآليات المنافسة السياسية في العراق. فالإخفاق ليس نهاية مرحلة بقدر ما هو مؤشر إلى ضرورة إعادة التفكير في الأسس الحاكمة للعمل المدني وأولوياته. تتضح الأزمة الأولى في حالة التشتت التي باتت سمة دائمة للقوى المدنية. فعدد الأحزاب أكبر بكثير من طاقتها التنظيمية، والتحالفات تنشأ غالباً في اللحظات الأخيرة من دون رؤية تتجاوز جمع الأشخاص أو الرموز. هذا التعدد غير المنظّم يربك الجمهور ويضعف الثقة، كما يجعل الكيانات المدنية عاجزة عن تكوين مركز قرار موحد أو ماكينة انتخابية منضبطة. وما يزيد الأمر تعقيداً غياب آليات داخلية واضحة لفرز المرشحين، ما يسمح بظهور شخصيات مثيرة للجدل داخل القوائم المدنية، الأمر الذي ينعكس سلباً على صورتها العامة ويمنح خصومها فرصة لتشويه خطابها الإصلاحي. التحول الكبير لا يمكن اختزاله في سوء حظ انتخابي؛ ما حدث يعكس أزمة أعمق في بنية العمل المدني ذاته، وفي الطريقة التي تتعامل بها هذه القوى مع المجتمع وآليات المنافسة السياسية بعيداً عن البنية التنظيمية، يبرز ضعف الحضور المحلي باعتباره أحد أكثر العوامل تأثيراً في نتائج 2025. فالأحزاب التقليدية تمتلك شبكات اجتماعية واسعة، وحضوراً دائماً في الأحياء والجامعات وأوساط العمال والمهنيين، بينما تمارس القوى المدنية نشاطها غالباً من المركز وفي إطار نقاشات رقمية أو نخبويّة لا تصل إلى الأطراف. ومع غياب المكاتب المحلية الفاعلة وتراجع التواصل اليومي مع الناس، يصبح من الطبيعي أن يخسر المدنيون جمهورهم قبل الوصول إلى صناديق الاقتراع. السياسة في العراق لا تُمارس من الشاشات بل من الشارع، عبر تواصل حي وشبكات خدمة ومتابعة مستمرة لشؤون المواطنين. أما في ما يتعلق بالمرشحين، فقد أظهرت انتخابات 2025 أن كثيرين منهم يمتلكون كفاءة معرفية أو خلفية حقوقية، لكنهم يفتقرون إلى الشعبية المحلية وإلى الروابط الاجتماعية القادرة على تحويل حضورهم الرمزي إلى أصوات فعلية. فالمرشح في العراق يحتاج إلى قاعدة يمكن البناء عليها، وإلى سجل حضور في محافظته، وإلى معرفة دقيقة بالبنية الاجتماعية التي يترشح وسطها. وحين تأتي الترشيحات في اللحظات الأخيرة وتفتقر إلى امتداد اجتماعي، يصعب أن تحقق اختراقاً أمام خصوم يمتلكون سنوات من التنظيم والتمويل. وتتعزز هذه المشكلات بسبب تأخر الاستعداد للانتخابات. فالقوى المدنية غالباً تبدأ العمل قبل أشهر قليلة من الاقتراع، بينما تبدأ الأحزاب الكبيرة استعداداتها قبل سنوات، وتبني تحالفاتها وتستعد لوجستياً وتنظيمياً وتمويلياً. الانتخابات في العراق عملية طويلة تحتاج إلى موارد مالية، وفرق ميدانية، وتحليل دقيق للخريطة الاجتماعية، وتدريب الماكينة الانتخابية، وهذه العناصر لا تبنى في أسابيع. تضاف إلى ذلك أزمة خطاب واضحة. فالخطاب المدني يتأرجح بين لغة نخبوية عالية لا تتصل بحياة المواطن اليومية، وبين شعارات عامة لا تقدم حلولاً ملموسة. المواطن يريد إجابات بشأن الكهرباء والماء وفرص العمل وضمان المعيشة، ويريد رؤية اقتصادية وإدارية قادرة على تحسين الخدمة العامة، وهو ما لم تنجح القوى المدنية في صياغته ضمن برنامج متماسك يقنع الجمهور بأن البديل المدني قادر على الحكم، لا مجرد معترض أخلاقي على أخطاء الآخرين. وتقدم تجربة تشرين درساً مهماً؛ فقد حققت القوى المنبثقة من الاحتجاجات نتائج لافتة في 2021، لكن دخولها البرلمان كشف حدود قدرتها على العمل الموحد. صراعات داخلية، وتباينات في الخط السياسي، وعدم اتفاق على أولويات واحدة، كلها عوامل ساهمت في فقدان ثقة جزء من جمهور تشرين نفسه. وعندما فشلت هذه القوى في تقديم نموذج سياسي فعّال، انعكس ذلك في صناديق 2025. ولا يمكن تجاهل طبيعة البيئة الانتخابية العراقية. فهناك أحزاب تمتلك نفوذاً اقتصادياً واجتماعياً واسعاً، وشبكات محلية متجذرة، وقدرة على تقديم الخدمات المباشرة، إضافة إلى قوانين انتخابية غالباً ما تصبّ في مصلحة الكتل الكبيرة. في هذا السياق، يكون دخول القوى المدنية الانتخابات من دون قواعد محلية قوية أو تحالف وطني موحّد أو تمويل مستدام مغامرة غير محسوبة. ومع ذلك، فإن نتائج 2025 لا تعني نهاية المشروع المدني، بل يمكن قراءتها باعتبارها فرصة لإعادة البناء على أسس جديدة. فالمجتمع العراقي يشهد تحولات ثقافية وسياسية عميقة، ويزداد عدد المواطنين الراغبين في بديل غير طائفي وغير زبائني، لكن هذا البديل يحتاج إلى تنظيم حقيقي ورؤية طويلة الأمد. ويمكن للقوى المدنية استعادة موقعها إذا اتخذت خطوات واضحة: أولها بناء جبهة مدنية واسعة بلا تشتت، وثانيها تأسيس مكاتب محلية فعّالة تعمل على مدار السنوات، وثالثها إعداد برنامج سياسي واقتصادي واقعي، ورابعها تنظيم حملات انتخابية مبكرة تعتمد على البيانات والدراسات، لا على التفاؤل وحده، وخامسها تمكين الشباب والكوادر الجديدة بعيداً عن الانقسامات القديمة. إن الفشل في انتخابات 2025 ليس سقوطاً نهائياً، بل إنذار ضروري. فالمشروع المدني في العراق لن ينهض بالشعارات ولا بالعمل الموسمي ولا بالخطاب الأخلاقي وحده، بل عبر بناء تنظيم متماسك واستراتيجية طويلة المدى وعلاقة عضوية مع المجتمع. وإذا استطاعت القوى المدنية تحويل درس 2025 إلى نقطة انطلاق جديدة، فإن الحياة السياسية في العراق ستظل قابلة لأن تشهد ظهور قوة مدنية مؤثرة وقادرة على تقديم نموذج مختلف لإدارة الدولة، نموذج يوازن بين الواقعية والطموح ويعيد الثقة بين المواطن والسياسة.
بتاريخ:  2025-11-25


التعليقات على الموقع تعكس آراء كتابها ولا تعكس آراء الموقع.
يمنع أي لفظ يسيء للذات الالهية أو لأي دين كان أو طائفة أو جنسية.
جميع التعليقات يجب أن تكون باللغة العربية.
يمنع التعليق بألفاظ مسيئة.
الرجاء عدم الدخول بأي مناقشات سياسية.
سيتم حذف التعليقات التي تحوي إعلانات.
التعليقات ليست للتواصل مع إدارة الموقع أو المشرفين. للتواصل يرجى استخدام صفحة اتصل بنا.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
يجب ملىء حقل الاسم.
يجب ملىء حقل العنوان.
يجب ملىء حقل الرساله.
الاكثر مشاهدة
للاعلى تشغيل / ايقاف للاسفل