أخر الأخبار » العربي

تشريح لمرحلة الالتباس السوري

يشكّل المشهد السوري اليوم لوحة معقّدة تتقاطع فيها ظواهر متناقضة؛ فمن جهة هناك صعود واضح للتعبئة العقائدية داخل مؤسسات الدولة، ولا سيما الجيش والأمن والدوائر الإدارية، ومن جهة أخرى تظهر مساحات محدودة من الحريات داخل المجتمع وفي الإعلام الرسمي، ما يجعل المرحلة الانتقالية السورية مضطربة وغير محسومة. وهذا التباين لا يعكس تناقضاً بسيطاً بين الانفتاح والانغلاق، بل يعكس صراعاً عميقاً بين مشروعين متوازيين يتنافسان على تحديد مستقبل الدولة: مشروع "الدولة العقائدية" الذي يسعى إلى إعادة إنتاج سلطته بأدوات دينية متشددة، ومشروع "الدولة المدنية" الذي يطلّ بخجل من خلال هوامش الحرية المتنامية، ولو تحت رقابة مشددة. المسألة الأولى التي تشكّل مركز القلق السوري اليوم هي انتشار التعبئة العقائدية داخل مؤسسات الدولة، بحيث باتت بعض الوحدات العسكرية والأمنية تعتمد خطاباً دينياً ضيقاً يغرس في أفرادها ولاءات تتجاوز حدود الدولة. الأخطر أن هذه التعبئة لم تعد هامشية أو مرتبطة بمجموعات صغيرة، بل أصبحت جزءاً من "التنظيم الداخلي" للمؤسسات، حتى أن وجود شيخ أو مرجع ديني داخل كل مؤسسة لم يعد استثناءً بل ظاهرة متكررة. هذا التحوّل يغيّر بنية المؤسسة نفسها؛ فحين يدخل الواعظ إلى المعسكر، يصبح الانتماء الديني معياراً للسلوك والانضباط، ويحلّ محل العقيدة العسكرية التي كان يفترض أن تقوم على المهنية والولاء للوطن. وهكذا تتكوّن ولاءات فرعية داخل المؤسسة، تتفوّق في بعض الأحيان على الانضباط العسكري ذاته. إن هذا النموذج خطير لأنه يعيد إنتاج صورة الدولة بوصفها "مجتمعاً من مغلقات دينية"، لا منظومة حديثة قائمة على القانون. والأسوأ أن الدولة تستخدم هذا النمط من التعبئة كأداة لتعويض ضعف الشرعية السياسية بشرعية دينية جاهزة. فبدل أن تستند المؤسسات إلى القانون والعقد الاجتماعي، تستند إلى الموعظة، وبدل أن يُبنَى الانضباط على التدريب العسكري تُبنَى الطاعة على شعور ديني محفّز. وبذلك يصبح الجيش والأمن أقرب إلى جماعات ذات هوية عقائدية موحدة منهما إلى مؤسستين وطنيتين تمثلان جميع السوريين على اختلاف انتماءاتهم. سورية اليوم بلد يعيش توتراً بين اتجاهين متعاكسين: اتجاه رسمي نحو التديين المؤسسي، واتجاه اجتماعي نحو انفتاح نسبي غير أن الصورة لا تقف عند هذا الحد؛ فالتعبئة العقائدية داخل مؤسسات الدولة تتزامن ـ وبشكل مفارق ـ مع وجود هوامش من الحريات تتوسع تدريجياً داخل المجتمع، بل وأحياناً داخل الإعلام الرسمي نفسه، بما في ذلك التلفزيون. هذه الهوامش تعبّر عن سلوك اجتماعي وسياسي جديد في سورية، إذ لم يعد الناس بعد سنوات طويلة من الصمت قادرين على العودة إلى القوالب القديمة. ثمة رغبة عامة، ولو خافتة، بالخروج من الخطاب المؤدلج، وبالتعبير عن رأي بعيد عن لغة العقائد الصلبة. ولهذا بدأت تظهر نقاشات محدودة في بعض البرامج، وآراء أكثر تنوعاً، وانتقادات خفيفة لم يكن من الممكن تصورها سابقاً. هذه الهوامش ليست نتيجة سياسة إصلاح واضحة، ولا تعبّر عن قرار سياسي بتحرير الإعلام، بل جاءت نتيجة تفاعل ثلاثة عوامل أساسية: أولاً، تعب الناس من الخطاب الواحد الذي فقد القدرة على الإقناع. ثانياً، عجز الإعلام الرسمي عن تجاهل التحولات الاجتماعية والرقمية التي حطّمت احتكاره للمجال العام. ثالثاً، إدراك بعض دوائر السلطة أن الانغلاق الكامل لم يعد قابلاً للاستمرار، وأن فتح نافذة صغيرة يمنح صورة "دولة أكثر مرونة" ويخفّف الاحتقان دون تقديم تغيير جوهري. إن وجود هذه الهوامش داخل الإعلام الرسمي أو في الشارع السوري لا يعني انتقالاً كاملاً نحو الحرية، ولا يشير إلى توجّه فعلي نحو نموذج مدني، لكنه يدل على أن المجتمع بدأ يفرض إيقاعه الخاص، وأن الخطاب العقائدي المتشدد ـ رغم توسعه داخل المؤسسات ـ لا ينجح في السيطرة على المجال العام كما كان متوقعاً. فالناس لم تعد قابلة للعودة إلى المربّع الأول. وهذا ما يجعل سورية اليوم بلداً يعيش توتراً بين اتجاهين متعاكسين: اتجاه رسمي نحو التديين المؤسسي، واتجاه اجتماعي نحو انفتاح نسبي. أما التحوّل المهم الآخر فيتعلق بدور البرجوازية السورية في هذه المرحلة. فبعد عقود من التهميش وتفكيك الطبقة الوسطى، بدأت فئات من البرجوازية، في الداخل والخارج، تعيد التفكير بدورها التاريخي. هذا الدور الذي كان سابقاً ركيزة للحداثة والتعليم والصناعة يمكن أن يتحول اليوم إلى عنصر توازن يعيد بناء المجتمع من جديد. فالبرجوازية، بعقلها الاقتصادي وميلها الطبيعي للاستقرار، قادرة على دفع المجتمع نحو قيم أكثر عقلانية، ونحو اقتصاد منتج يعيد تشكيل الطبقة الوسطى التي تُضعف بطبيعتها كل أشكال التطرف العقائدي. إن عودة هذه الفئة إلى الاستثمار والمشاركة يمكن أن تعيد الحياة الاقتصادية والاجتماعية إلى مسار أكثر توازناً، وتمهّد لبيئة تقلّ فيها الحاجة إلى الخطابات الدينية المتشددة. والمفارقة أن التنافس بين مسار التديين ومسار الانفتاح لا يمكن أن يُحسم داخل المؤسسات وحدها، بل يعتمد على البيئة الاجتماعية والاقتصادية والأمنية عموماً. فإذا استمرت الدولة في تعزيز الولاءات الدينية داخل الجيش والأمن، فإن الهوامش ستتقلص تدريجياً ويُعاد إنتاج دولة أمنية عقائدية مغلقة. أما إذا تطوّر الخطاب المدني ونجحت الطبقة الوسطى في تعزيز حضورها، فإن هذه الهوامش قد تتحول تدريجياً إلى مسارات إصلاح حقيقية. اليوم تقف سورية بين هذين الاتجاهين في منطقة انتقالية لم تُحسم بعد. فالمجتمع السوري، رغم تناقضاته، بدأ يتململ من العقائدية، لكن مؤسسات الدولة تتجه في المقابل نحو تعزيز الطابع الديني باعتباره وسيلة للتماسك. الإعلام يفتح نافذة صغيرة، بينما الوحدات العسكرية تزيد من انغلاقها. المواطن يفكر بفضاء أرحب، فيما الأجهزة تردّ بالتشدد. هذا الصراع سيحدد في السنوات القادمة طبيعة الدولة التي ستقوم: دولة وطنية حيادية أم دولة عقائدية مغلقة. إن مستقبل سورية يتوقف على قدرة المجتمع والدولة معاً على تجاوز هذا التناقض العميق. فالبلد بحاجة إلى مؤسسات مهنية غير مؤدلجة، وجيش وأمن وطنيين لا يخضعان لتحريض ديني، وإعلام حيادي، وطبقة اقتصادية قادرة على خلق بيئة اجتماعية مستقرة، كما يحتاج إلى التخلي عن فكرة "الشيخ داخل المؤسسة"، والعودة إلى فكرة "القانون داخل الدولة". وفي المسافة بين هاتين الفكرتين سيتحدد شكل سورية القادمة.
بتاريخ:  2025-11-25


التعليقات على الموقع تعكس آراء كتابها ولا تعكس آراء الموقع.
يمنع أي لفظ يسيء للذات الالهية أو لأي دين كان أو طائفة أو جنسية.
جميع التعليقات يجب أن تكون باللغة العربية.
يمنع التعليق بألفاظ مسيئة.
الرجاء عدم الدخول بأي مناقشات سياسية.
سيتم حذف التعليقات التي تحوي إعلانات.
التعليقات ليست للتواصل مع إدارة الموقع أو المشرفين. للتواصل يرجى استخدام صفحة اتصل بنا.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
يجب ملىء حقل الاسم.
يجب ملىء حقل العنوان.
يجب ملىء حقل الرساله.
الاكثر مشاهدة
للاعلى تشغيل / ايقاف للاسفل