أخر الأخبار » العربي

رحلات الشاطر.. حين صار الفقيه سكرتيراً لبابا الفاتيكان

اهتمت المؤرخة الأميركية الكندية ناتالي زيمون ديفيس، في كتابها "رحلات الشاطر: مسلم من القرن السادس عشر بين عالمين" (مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، 2025) الذي ترجمه إلى العربية الباحث الجامعي محمد جليد، بإعادة بناء حياة الحسن الوزان أو جيوفان ليوني أفريكانو أو يوحنا الأسد من منظور السياق التاريخي الذي عاش فيه، وخاصة العقود الأخيرة من القرن الخامس عشر الميلادي، والأولى من القرن السادس عشر الميلادي. ذلك أن هذا المنظور يعمق القراءة التي ترى في مقام الحسن الوزان بروما تجربة عبور بين ضفتين لا تخصّه وحده، بل تعبّر عن لحظة مفصلية في التاريخ المتوسطي برمته. وهذا ما جعل منه رجلاً "يحتفظ بعالمين، ويتخيل جمهورين، ويستعمل تقنيات مستمدة من المخزون الإسلامي، بينما يمزجها مع عناصر أوروبية بأسلوبه الخاص". فقبل أن ينتقل الوزان إلى روما، ويحظى بثقة البابا ليو العاشر، كان فقيهاً ودبلوماسياً وضع نفسه في خدمة البلاط، كما كان يتكلم عدّة لغات (العربية، اللاتينية، الإسبانية، البرتغالية، الإيطالية) ويكتب جيداً، ويعرف إيماءات آداب الإجلال، وإقامة المآدب وتبادل الهدايا، فضلاً عن معرفته الدقيقة بتغيرات القواعد والأذواق، نتيجة تنقله عبر أفريقيا والشرق الأدنى. ولعل هذا ما سهل عليه الظفر بمعاملة استثنائية، بعد أن أسره القرصان بوباديلا الذي استولى على سفينة تقلّ ستين تركياً في يونيو/ حزيران 1518، وقدمه مع حقائبه وكتبه هدية إلى البابا الذي كان، آنذاك، منهمكاً في جمع المال وتوحيد الأمراء المسيحيين لشن حملة صليبية على الأتراك المسلمين، مما دفع به إلى الاستعانة بالأسير المسلم في قلعة سانت أنجلو، والذي أثبت حينها أنه عالم موسوعي استثنائي. في خضم تلك الحملة، ترى ناتالي ديفيس، وهي تمزج بين التوثيق والتخييل، أن الحسن الوزان خاف أن "يبقى قابعاً في السجن، أو ربما يُستعبد مثل أي أسير مسلم عادي، يعمل خادماً في بيت إذا كان محظوظاً، أو في الإسطبلات أو الزراعة أو القوادس". ولهذا أفضت به النقاشات مع أساقفة الفاتيكان إلى الإقرار بإيمانه بنصوص العقيدة المسيحية، فتم تعميده في 6 يناير/ كانون الثاني 1520، في حفل باذخ أقيم في كاتدرائية القديس بطرس. وهنا يطرح السؤال التالي: هل محى هذا "التعميد القسري" الدين الذي ولد عليه الفقيه الفاسي؟ وهل وضعته مهامه في البلاط البابوي في دائرة المقربين؟ عكست حياته مرآة لانقسام العالم المتوسطي في لحظة تاريخية مفصلية   صحيح أنه بعد موت البابا ليو العاشر، استعان الكاردينال إيجيدو دا فيتيريو (من كنيسة القديس أوغسطين) بالحسن الوزان لإرشاده إلى "الكتب الإسلامية المليئة بالزندقات" لاستعمالها في مهام التنصير، بل قام بمراجعة "النسخ العربية والترجمة اللاتينية للقرآن الذي جاء به إيجيدو من إسبانيا، وعلق عليهما، موضحاً المقاطع الغامضة لـ "سيده الموقر" ومصححاً أخطاء الترجمة". غير أن هذا التعاون أبقى الفقيه المتنصر على هامش الدوائر البابوية، رغم امتلاكه "معلومات مفيدة" استغلها المسيحيون في حربهم ضد الأتراك. "لم يكن مهماً بما يكفي ولم يكن مصدر ثقة حتى يؤخذ إلى قلب تلك التجمعات، إذ لم يمثل تعميده إلا نصراً مسيحياً"، بحسب الكتاب.  لقد عاش الحسن الوزّان، إذن، تجربة تتميز بالتركيب، جعلت حياته مرآة لانقسام العالم المتوسطي في لحظة تاريخية مفصلية (الحروب الصليبية). إذ كان فقيهاً مسلماً، لكن وقوعه في الأسر فرض عليه اعتناق المسيحية، والاشتغال بالتأليف في الفاتيكان، والمساهمة في النقاش الديني والعلمي في مجالس الأساقفة والكرادلة الذين اعتبروه مدخلاً موثوقاً إلى عالم الإسلام. في ظل هذا التمزق، تشكل الوعي المزدوج للحسن الوزان، إذ أصبحت روما بالنسبة إليه مختبراً ثقافياً وفكرياً تحوّل فيه من فقيه إلى شاهد ثقافي بين عالمين لا يكفّان عن الاشتباه في بعضهما بعضاً، رغم القواسم المشتركة بينهما من جهة "تغيير الولاءات" التي لاحظ هيمنتها في الضفتين. إن إقامة الوزّان في روما تمثل واحدة من أرقى تجارب "العبور الثقافي" في التاريخ العربي الإسلامي، حيث كان عليه أن يعيش في وسط يقرأ تاريخه من منظور لاهوتي وعدائي أحياناً، لكنه وجد في المعرفة سبيلاً لترويض هذا التناقض. فالوزّان لم يُنصّر بالمعنى الروحي، بل بالمعنى الثقافي؛ إذ إنّ تحوله إلى جيوفان ليوني أفريكانو أو يوحنا الأسد، كان إعادة تسمية رمزية فرضها السياق السياسي والديني للقرن السادس عشر، دون أن يقضي على نحو نهائي على الخيوط التي تربطه بانتمائه الأول، إذ استثمر هذا "الموقع الحدي" لإعادة تعريف الصورة المتبادلة بين الشرق والغرب، فقام بتأليف مجموعة من الكتب: "مختصر أخبار المسلمين"، و"عقيدة محمد وشريعته وفق المذهب المالكي"، و"حيوات العلماء العرب"، و"في بعض مشاهير الرجال"، و"وصف أفريقيا"..). تبعاً لذلك، تقدم لنا ناتالي ديفيس تأسيساً على الوثائق وبناء الفرضيات والسرد التخييلي، تركيباً معقداً لحياة الحسن الوزان الذي استطاع أن يبني دفاعاته الناعمة بدهاء كبير؛ فكتب وشرح وأملى وشارك في النقاشات اللاهوتية والجغرافية، لكنه مع ذلك كان يزرع داخل تلك النصوص رؤية إنسانية تُخفّف من حدة التصورات المسيحية السائدة عن العالم الإسلامي. بقي الفقيه المتنصر على هامش الدوائر البابوية رغم تعاونه معها   لقد جسّد الوزّان ما يمكن تسميته بـ"المثقف المَعْبَر"، أي الذي يتحرك بين اللغات والديانات والثقافات دون أن يستقر في أي منها. إنه النموذج الأول لما سيسميه إدوارد سعيد لاحقاً بـ"المثقف المنفي" أو "المنتمي إلى الهامش"، الذي يُنتج فكره من موقع المسافة، فلم يكتب عن المغرب وأفريقيا بعين الغازي الأوروبي، وإنما بعين من عاش التجربة من الداخل، إذ قدم في هذا الكتاب، الذي تسميه ناتالي "كوزموغرافيا أفريقيا وجغرافيتها"، سرداً مغايراً يدمج المعرفة الجغرافية بالمعرفة الأنثروبولوجية، ويؤسس لنظرة نسبية إلى العالم. تستنتج مؤلفة "رحلات الشاطر" أن الإرث الأساس لحسن الوزان يبقى هو مخطوطة أفريقيا التي راجعها المحرر والوجه السياسي جيوفاني باتيستا راموزيو وحررها بعنوان "وصف أفريقيا". وتقول: "لو علم الحسن بن محمد الوزان بما كان سيشهده كتابه من طبعات وترجمات عديدة، وباسم جيوفاني ليوني أفريكانو الذي سينبثق منها، لتباينت ردات فعله. لقد أصبح الكاتب، الذي ظل يبحث عن طريقه باللغة الإيطالية، سيد اللغة. وأضحى مؤلف نص ديني محايد نسبياً متنصراً مسيحياً، بشعور معاد للإسلام قوّلته إياه الترجمات الفرنسية واللاتينية والإنكليزية بصورة خاصة". عاش الحسن الوزان في روما بين شخصيات مسيحية كبيرة (البابا ليو العاشر؛ الكاردينال إجيدو دا فيتيربو؛ أمير كاربي ألبرتو بيو؛ أمين مكتبة الفاتيكان جيرولامو ألياندرو؛ المستشار البابوي جيوليو دي ميديتشي..)، لكنّه لم ينتمِ إليها إلا بما اقتضى الإرغام الذي تعرض له، إذ كان يحمل فاس في ذاكرته، والإسلام في وجدانه. ولعل هذا ما جعل ناتالي ديفيس تستنتج أن كتابات يوحنا تشير كلها إلى أنه "كان يتظاهر بغير ما يعتقد عندما قال إنه قبل عقيدة الثالوث والتجسد". إنّ التحليل الثقافي لحياته في روما في ضوء قراءة "رحلات الشاطر" يكشف أن "المعبر" الذي سكنه الوزّان يشكل "حالة إبستمولوجية"، أي نمطاً من إنتاج المعرفة في التماس مع الآخر. فحين كتب باللاتينية عن أفريقيا، لم يسع إلى الترجمة، وإنما أعاد ترتيب العالم وفق منطق التداخل الثقافي.
بتاريخ:  2025-11-25


التعليقات على الموقع تعكس آراء كتابها ولا تعكس آراء الموقع.
يمنع أي لفظ يسيء للذات الالهية أو لأي دين كان أو طائفة أو جنسية.
جميع التعليقات يجب أن تكون باللغة العربية.
يمنع التعليق بألفاظ مسيئة.
الرجاء عدم الدخول بأي مناقشات سياسية.
سيتم حذف التعليقات التي تحوي إعلانات.
التعليقات ليست للتواصل مع إدارة الموقع أو المشرفين. للتواصل يرجى استخدام صفحة اتصل بنا.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
يجب ملىء حقل الاسم.
يجب ملىء حقل العنوان.
يجب ملىء حقل الرساله.
الاكثر مشاهدة
للاعلى تشغيل / ايقاف للاسفل