أخر الأخبار » العربي

ربع قرن على هبة القدس والأقصى

ربع قرن بالتمام والكمال على هبة القدس والأقصى، في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2000، والتي استشهد فيها 13 شاباً في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948. تحلّ ذكرى الهبة الـ25 اليوم الأربعاء، في ظل حرب الإبادة والتهجير الإسرائيلية على قطاع غزة، وفي الوقت ذاته استهداف الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس المحتلتين. وفي الداخل أيضاً، قمع للاحتجاجات ونشاطات التضامن مع غزة، وحملات اعتقالات واسعة، وتعميق هدم المنازل، وإشاعة الجريمة، وغير ذلك من الممارسات القمعية والعنصرية. ورغم مرور ربع قرن على هبة القدس والأقصى، لا تزال آثارها باقية حتى اليوم، بل باتت أشد وأعمق. وفي حين تفجّرت الاحتجاجات في أكتوبر 2000 إثر اقتحام رئيس المعارضة الإسرائيلية حينها أرييل شارون حرم الأقصى، فإن المسجد يشهد اليوم انتهاكات أوسع، وحرية أكبر لطقوس المتدينين اليهود واقتحامات المستوطنين، وتغييراً منهجياً لما يُعرف بـ"الوضع القائم"، الذي غيّره الاحتلال فعلياً (والوضع القائم في المسجد الأقصى هو الذي ساد قبل احتلال مدينة القدس الشرقية عام 1967، وبموجبه فإن دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس، التابعة لوزارة الأوقاف الأردنية، هي المسؤولة عن إدارة شؤون المسجد). وأشار تقرير نشرته صحيفة يسرائيل هيوم الإسرائيلية قبل نحو أسبوع إلى أن مصطلح "انقلاب" صغير جداً أمام ما تفعله تل أبيب في المسجد الأقصى، إذ تغيّر "الوضع القائم" تدريجياً، بخطوات وقرارات سرية وعلنية. وأشار إلى أن ما هو مقبل أخطر بكثير على مستوى الحرم القدسي، بعد أن انتهكت إسرائيل الكثير من "المحظورات"، وبات الكثير مما كان "محرّماً" على اليهود بالأمس مسموحاً به اليوم، على طريق تحقيق السيطرة الإسرائيلية التامة على المسجد. أما الأعداد في ملفات شرطة الاحتلال، فتشير إلى أن 60 ألف مستوطن اقتحموا الأقصى في العام الحالي، وهو عدد ارتفع على نحو ملموس عاماً بعد عام، مقارنة بـ5792 مستوطناً خلال عام 2010. تغييرات منذ هبة القدس والأقصى تغييرات على مستويات عدة شهدتها الأعوام الـ25 الماضية منذ أكتوبر 2000، وازداد حجم التحديات أمام فلسطينيي الداخل المحتل، في ظل تراكم سياسات وقوانين إسرائيلية لا يمكن تفسيرها إلا بكونها استهدافاً صريحاً لوجودهم. وفي حين لا يمكن الفصل بين ما يحدث في غزة وما يحدث في الداخل، قررت لجنة المتابعة العليا لشؤون فلسطينيي الـ48 تنظيم نشاطاتها هذا العام تحت عنوان "مناهضة حرب الإبادة والتهجير والتجويع، التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على شعبنا منذ عامين، وتستفحل من يوم إلى آخر". وأضافت في بيان أن "التركيز الآن على محو مدينة غزة عن وجه الأرض، وتكثيف الجرائم، سعياً لتهجير أهالي قطاع غزة من القطاع برمته، وهذه الجرائم ترتكب أيضاً في أنحاء عدة في الضفة الغربية المحتلة، خاصة في مخيمات اللجوء". وأكدت لجنة المتابعة أن ذكرى هبة القدس والأقصى تحلّ اليوم "في الوقت الذي تستفحل فيه كل مسبباتها، بدءاً من اتساع الاحتلال وجرائمه". وتبقى القدس والمسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية، وفق اللجنة المتابعة، في مركز الاستهداف والجرائم "لا بل إن التمادي على المسجد الأقصى بكامل مساحته يتزايد بأوامر من حكومة الاحتلال وأذرعها". ولفتت إلى أن السياسات العنصرية تستفحل "والملاحقات والقمع السياسي، وخاصة التضييق علينا في نشاطنا السياسي المشروع، وزاد على هذا تمادي جهاز البوليس بأوامر وزيره (إيتمار بن غفير)، في قمع الحريات، والتدخل في شؤون سياسية ليست من اختصاصه، رغم أن هذا الجهاز، وعلى مر العقود الثمانية الأخيرة، لم يكن تجاه جماهيرنا سوى جهاز بوليس سياسي قمعي". وتمعن المؤسسة الإسرائيلية في ارتكاب جرائم التدمير والتهجير في البلدات العربية في النقب، ولا يختلف الأمر، في الجوهر والمبدأ السياسي"، بحسب لجنة المتابعة، عما يجري في الضفة وقطاع غزة، وذلك "بقصد ليس فقط القمع، بل أيضاً الاستيلاء على الأراضي العربية ومصادرتها لبناء المستوطنات". "أعداء" واعتقال واسع للنساء مع إحياء ذكرى هبة القدس والأقصى، في ظل استمرار الإبادة في غزة وإسقاطاته على الداخل الفلسطيني، يرى مدير مركز مساواة الحقوقي في حيفا، جعفر فرح، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "ما اعتُبر عام 2000 انتهاكاً لحقوق الإنسان وقتل مدنيين أفراد، تحوّل إلى ظاهرة جماعية"، موضحاً أنه "نتحدث هنا عن مجازر، إذ لا يمكن فصل ما يحدث في غزة عما يحدث في الداخل"، وفي رأيه "إذا كان المطلب بعد أكتوبر 2000 بتشكيل لجنة تحقيق رسمية في ما حدث في هبة القدس والأقصى، فاليوم من يطالب بلجنة كهذه يسخّف نفسه". ويعزو ذلك إلى أن "حجم الانتهاكات هي بحجم انتهاكات قوانين الحرب، لا بحجم انتهاكات حقوق الإنسان على مستوى دولة، ما يؤثر علينا في الداخل أيضاً". ويبيّن فرح أنه "نرى قمع التظاهرات في الداخل تحوّل لقمع منهجي منظم، وبناء على توصيات لجنة أور (لجنة التحقيق التي تشكّلت عقب أكتوبر 2000)، باستخدام قوة كبيرة من الشرطة للقمع والاعتقال مع أقل حالات قتل". وفعلياً، يقول فرح: "وثقّنا 13 حالة قتل خلال التظاهرات في أحداث أكتوبر 2000، وفي السنوات التالية حتى اليوم، كان لدينا حوالي 49 حالة قتل لمواطنين عرب برصاص الشرطة، ولكن في ظروف مختلفة وليس في تظاهرات". جعفر فرح: هناك تراجع في مواقف المحكمة العليا ومحاكم الصلح والمحاكم المركزية التي تصادق على اعتقالات بشكل تلقائي ورغم أنه منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لا يوجد قتلى في تظاهرات، إلا أن فرح يلفت إلى وجود "منهجية نرى مثلها في دول ديكتاتورية على مستوى الاعتقالات بحق فلسطينيي الداخل وأوامر الاعتقال الإداري (من دون تهمة أو محاكمة)، من حيث الطريقة والعدد، ومنع المعتقل من لقاء محاميه على مدار عدة أيام". ويضيف أن "هناك أيضاً ظاهرة اعتقال النساء بأعداد كبيرة، وهو أمر لم يكن في السابق بهذا الحجم، ففي أكتوبر 2000 كانت هناك إصابات لنساء ولكن تقريباً لم تكن هناك اعتقالات (في صفوفهن)، لكن منذ أكتوبر 2023 (بدء حرب الإبادة)، هناك اعتقال منهجي لنساء عربيات منذ اليوم الأول في محاولة لترهيب كل المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل، كما نرى الانقلاب الدستوري في ممارسات المحاكم". وبشأن المحاكم، يوضح فرح أن "هناك تراجعاً في مواقف المحكمة العليا، ومحاكم الصلح والمحاكم المركزية، التي تصادق على اعتقالات بشكل تلقائي لأيام وأسابيع، ومن دون لقاء مع المحامي". كما "هناك ضغط لليمين الفاشي على الجهاز القضائي بشكل عام، وتماهٍ وقبول لتعليمات من قبل المستوى القضائي مع المستوى السياسي". ويتابع: "لاحظنا مثل هذا الأمر في بداية 2021، حين قررت الحكومة مثلاً اعتقال 600 مواطن، وتحضير المخابرات والشرطة قوائم وتنفيذ اعتقالات، لكن خلال أيام توقفت موجة الاعتقالات، بينما الوضع اليوم تغيّر، إذ نتحدث عن النيابة العامة التي وافقت على تحويل صلاحياتها للشرطة في موضوع الاعتقالات على خلفية التعبير ومنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي". بحسب فرح "كان ادعاء النيابة العامة أنه بفضل موافقتها على تحويل الصلاحيات للشرطة جرى تحرير عدد من الأسيرات الإسرائيليات في التبادل الأول (مع المقاومة في غزة خلال نوفمبر/ تشرين الثاني 2023)". ويوصّف فرح واقع الاعتقالات في الداخل المحتل، قائلاً: "نحن نرى في السنوات الأخيرة، خصوصاً منذ الحرب الحالية، اعتقالات في ساعات الفجر وقبل التظاهرات والنشاطات الاحتجاجية، فيما تصل خلال النشاطات قوات كبيرة من الشرطة وتستخدم الهراوات والغاز المسيل للدموع وفي بعض الحالات الرصاص المطاطي". وبينما كان هناك في أكتوبر 2000 استخدام للقناصة، وفق فرح، وكان يوجد رجل مخابرات في كل منطقة مع ضباط الشرطة هو من يقرر على من يطلق الرصاص، الآن هناك في كل حملة قمع للمتظاهرين، وتعاون كبير بين الشرطة وجهاز الشاباك (الأمن الداخلي الإسرائيلي)، كما يوجد في كل عمل احتجاجي ضابط مخابرات في الحقل (على الأرض) وفي مركز التحكم بالعمليات، وهو إلى جانب ضابط الشرطة يقرران من يُعتقل ومن يبقى ويُمدد اعتقاله". هدم المنازل مظهر آخر من مظاهر التنكيل والانتهاكات في الداخل المحتل بعد هبة القدس والأقصى، يبرز في اتخاذ عمليات هدم المنازل العربية منحى جديداً نوعاً ما، من حيث حجمها ووتيرتها. لطالما تفاخر وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، خصوصاً في الآونة الأخيرة، بهدم منازل عربية، متوعّداً بالمزيد. وفي هذا السياق يقول فرح "إننا ننظر إلى ما يحدث في النقب على وجه الخصوص، ونشعر وكأن هناك نسخاً لتجارب التدمير الإسرائيلية التي تتم على نطاق واسع في غزة"، لافتاً إلى أن "ظاهرة هدم 50 بيتاً في اليوم نفسه، لم تكن من قبل بهذا الشكل"، إذ "نتحدث عن تدمير قرى بأكملها، مثل قرى السر والزرنوق وأم الحيران وغيرها، ومصادرة مئات آلاف الدونمات في النقب". ويوضح أنه "نرى تطبيقاً واسعاً لقوانين المواطنة والقومية (هدفها، بادعاء الاحتلال، الحفاظ على طابع الدولة اليهودي) في هذه الفترة". العنف والجريمة منذ هبة القدس والأقصى عام 2000 شهد المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل تصاعداً في العنف والجريمة، واتهامات للمؤسسة الإسرائيلية بمختلف أذرعها بالتواطؤ في ذلك، لإشاعة الفوضى وتدميره من الداخل. ومنذ مطلع العام الحالي وحده، قُتل في المجتمع العربي حتى اليوم نحو 200 شخص. وبالتوازي مع ذلك، عملت المؤسسة على مشاريع لدمج الشباب العرب في الخدمة المدنية والخدمة العسكرية، "وكثير ممن دُمجوا في الخدمة العسكرية انضموا لاحقاً لعصابات الإجرام"، وفق فرح، لأن لديهم وصولاً للأسلحة في الجهاز العسكري. ويوضح أن "من يسيطر على عصابات الإجرام المنظّم في المجتمع العربي هو الشاباك وليس الشرطة"، معتبراً أن "هذا جزء من سياسة السيطرة على المجتمع الفلسطيني في الداخل، فالدولة لا تريد التعامل مع المواطنين العرب بشكل متساوٍ، لذلك تستخدم أساليب السيطرة والقمع والترهيب من خلال عصابات الإجرام". وفي حالة القيادة السياسية، يقول فرح إن بن غفير يريد استخدام عصابات الإجرام وتوظيفها، كذريعة لقمع المجتمع العربي لأسباب سياسية و"يستخدم موضوع عصابات الإجرام للتحريض على المجتمع العربي، وهو بحالة انتظار الفرصة المواتية للإمعان في قمع المجتمع العربي، وخلق مواجهة دموية معه وتجريم هذا المجتمع".  سياسة إفقار تمعن الحكومة الإسرائيلية أيضاً في سياسية إفقار المجتمع العربي، بهدف إضعافه أكثر، وربما دفع ما استطاعت منه، للحصول على قروض من عصابات الإجرام، أو ما يُسمى "السوق السوداء". أدى ذلك إلى توريط عدد كبير من فلسطينيي الـ48، وهو ما ينتهي أحياناً بجرائم قتل أيضاً. كما أن ثلث الميزانيات فقط رُصد من أجل المجتمع العربي بحسب قرار الحكومة 550، في إطار خطة خمسية شاملة لسد الفجوات أقرت عام 2021، خرجت إلى حيز التنفيذ في آخر عامين، فيما تضاف إلى ذلك ملاحقة العمال العرب. وقدّم مركز مساواة الحقوقي على سبيل المثال، في 29 سبتمبر/ أيلول 2025، التماساً ضد سلطة التشغيل الحكومية، إذ لا يُطبّق قانون التمثيل الملائم للمجتمع العربي بموجب قانون سُن عام 2000. فعلى العكس من ذلك يُلاحق العمال والطلاب العرب في أماكن العمل وفي الجامعات، بعدة أساليب، من قبيل حملة واسعة ضد الأطباء العرب في الآونة الأخيرة، وتحريض على طلاب الطب العرب. ثقة معدومة  لا يثق المجتمع الفلسطيني في الداخل بمؤسسات الدولة، وبقدرته على التأثير، بعد موجة الاعتقالات في أعقاب السابع من أكتوبر 2023، وقبل ذلك في هبة مايو/ أيار (رافقت العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 2021)، وموجة الاعتقالات والاعتداءات آنذاك. مع هذا يرى فرح أنه "في الأشهر الأخيرة نشهد استعادة لثقتنا بأنفسنا ومؤسساتنا العربية في الداخل، ومحاولة إعادة تنظيم النشاط الاحتجاجي وكذلك العمل السياسي". وفي اعتقاده فإن "تمزيق القائمة المشتركة (انقسام في الكنيست في آخر انتخابات برلمانية عام 2019) والحوار السياسي بين الأحزاب السياسية، أضعف قدرتنا على التحرك الجماعي"، موضحاً أنه "حتى حين تدعو لجنة المتابعة لتظاهرة مثلاً، نلاحظ أن جزءاً من أعضاء الكنيست، ومنتخبي وممثلي الجمهور العربي لا يشاركون، أو لا يحشدون للنشاط". ويرى أن "هناك أزمة ثقة داخل القيادة السياسية... لكن هناك استعادة للجرأة والشجاعة من قبل الناس، للوقوف وقول كلمة حق في هذه الفترة، حول ما يحدث مع الشعب الفلسطيني". عبير بكر:  لا يمكن اختزال هبة القدس والأقصى بسياق علاقة الشرطة بالمواطنين، بل هي علاقة دولة بمواطنيها بدورها، تربط المحامية الفلسطينية المختصة بقضايا حقوق الإنسان والأسرى، عبير بكر، في حديث لـ "العربي الجديد"، بين ما حصل خلال هبة القدس والأقصى في أكتوبر 2000، وما يحدث اليوم مع المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل، وعدوانية المؤسسة الإسرائيلية له. وترى أن أهم الأمور التي تكشّفت في أكتوبر 2000 "كان الاعتراف الرسمي من قبل جهة إسرائيلية رسمية، هي لجنة أور، بأن تعامل الشرطة مع مواطنيها الفلسطينيين كان أشبه بالتعامل مع عدو وليس مع مواطن تجاوز القانون". وتضيف أنه "اتضح لنا لاحقاً كمحامين مثّلنا أهالي الشهداء بالمطالبة بالمحاسبة، بأن التعامل مع المواطن كعدو لم يقتصر على الشرطة وإنما أيضاً ميّز العقيدة التي عملت وفقاً لها سلطات إنفاذ القانون مثل المستشار القضائي للحكومة آنذاك (ميني مزوز) الذي أقر نهائياً بأنه لا مجال لمحاكمة أي من أفراد الشرطة". وتوضح أنه "فُحص أداء أفراد الشرطة وفقاً لمعايير فحص أداء أفراد الجيش في ساحة الاقتتال وتحييدهم للعدو، في تجاهل للفرق الشاسع بين علاقة الشرطة بمواطني دولة متظاهرين وبين الجيش في ساحة المعركة". واليوم، وفق بكر "نرى أن هذه العقيدة غدت متجذرة في علاقة الدولة مع مواطنيها الفلسطينيين بسياقات عدة". أما على مستوى العنف الشرطي ومسألة المحاسبة، فترى أنه رغم غياب أحداث قتل برصاص حي للمتظاهرين داخل حدود الخط الأخضر، منذ هبة القدس والأقصى، "إلا أننا رأينا استمراراً لظاهرة القتل على يد الشرطة"، مضيفة أنه "في معظم الحالات خرج أفراد الشرطة بلا أي محاسبة، لأن العقلية السائدة لم تتغير"، وموضحة أنها تتحدث عن "الفترة التي سبقت ولاية الوزير بن غفير (2022)". وفي رأي بكر فإن أحداث هبة القدس والأقصى لا يمكن اختزال تحليلها بسياق علاقة الشرطة بالمواطنين، بل هي علاقة دولة بمواطنيها. وتوضح أن "لجنة أور الرسمية التي حققت بالأحداث آنذاك حاولت أن تكون الجسر بين المواطنين والدولة، لذا تطرّقت في تقريرها (عن الأحداث) لموضوع مواطنة الفلسطينيين والغبن التاريخي الذي لحق بهم بعد النكبة (1948) وعلاقتهم مع أبناء وبنات شعبهم الفلسطيني من ناحية، ولموضوع لزوم ولائهم للدولة بمفهوم عدم التماهي مع أعمال عدائية ضدها ونعتها بالعدو، من ناحية أخرى". لكن بكر توضح أنه "بدل أن يكون رد فعل الدولة الدعوة للمصالحة التاريخية مع الفلسطينيين المواطنين اتخذت إجراءات قمعية هدفها طمس الهوية والذاكرة الجمعية للفلسطينيين والحد من تواصلهم العائلي والطبيعي مع أبناء وبنات شعبهم في المناطق المحتلة". على صعيد الاعتقالات والمحاكمات والتجريم، تقول بكر: "رأينا تصعيداً غير مسبوق، فبدلاً من أن تقوم الشرطة بتحييد المتظاهرين حتى الموت بواسطة القناصة كما فعلت خلال أحداث أكتوبر 2000، باتت تعتقلهم وتسجنهم بتهمة ارتكاب مخالفات، تُصنَّف - بخلاف الماضي - جرائم إرهاب وليس جرائم جنائية". وأُلصقت صفة الإرهاب، وفق بكر، "بمجموعة واسعة من المخالفات، ابتداءً من مخالفات التعبير وحتى الإضرار بالممتلكات"، موضحة أن "هذه التسمية تضمن التمييز بين المعتقل الفلسطيني الذي أخلّ بالنظام العام، وتعتبره عدواً من الداخل، وبين المعتقل الذي هو مواطن يهودي حريدي (متدين متشدد)، ألحق أضراراً بالممتلكات خلال تظاهرة ضد الدولة، والتي لن تُعرّف أبداً على أنها عمل إرهابي". تقول بكر إن "كلمة إرهاب أصبحت مرادفة لأفعال الفلسطيني متى ارتُكبت في سياق قضيته كفلسطيني، فالمواطن الفلسطيني الذي يُخلّ بالنظام في سياق احتجاج مرتبط بالشأن الفلسطيني لا يُنظر إليه كفرد، بل كجزء من جماعة ترى فيها الدولة تهديداً لوجودها، تماماً كما تنظر إلى أعدائها الآخرين". يأتي ذلك مقابل النظر إلى الحريدي الذي يهدد النظام العام، أو الإثيوبي الذي يحتج على العنصرية، أو والد محتجز إسرائيلي يحرض على العنف ضد رئيس الحكومة، "في أقصى الحالات، كمواطنين تجاوزت احتجاجاتهم المبررة حدود القانون الجنائي". تعرية الفلسطيني من انتمائه حاولت إسرائيل تعرية المواطن الفلسطيني من انتمائه عبر تشريعات عديدة سنها الكنيست الإسرائيلي، وفق ما ذكرته بكر، مثل قانون منع لم الشمل (2002) ومنع المؤسسات من إحياء ذكرى النكبة (2011) وتعريض كل من يدعو لمقاطعة إسرائيل، بما يشمل مستوطناتها في المناطق المحتلة، للمساءلة القانونية (2011)، إلى جانب سحب الجنسية بحجة "خيانة الأمانة والولاء للدولة" (2008)، وطرد عوائل المواطنين الذين قاموا أو حاولوا القيام بأعمال عدائية ضد الدولة (2023)، وسحب المواطنة وطرد أسرى حصلوا على رواتب من السلطة الفلسطينية (2022)، وغيرها من القوانين التي تستهدف المواطنة. وكأن الحكومة تقول، وفق بكر، للمواطن الفلسطيني "مواطنتك مشروطة بتنازلك عن هويتك القومية". وفي الوقت ذاته، تضيف أن "إسرائيل كرّست الفوقية العرقية لليهودي على الفلسطيني بواسطة قانون أساس: القومية". تشير بكر إلى أن "المحكمة العليا لم تتدخل حتى الآن ولم تبطل أياً من التشريعات المسيئة للفلسطينيين"، معتبرة أن "أبرز مثال على التعامل مع المواطنين وكأنهم في صف العدو، كان رفض المحكمة إطلاق سراح جثمان الأسير الراحل وليد دقة (إبريل/ نيسان 2024)، ليتسنى استخدام الجثمان كورقة مساومة أمام حركة حماس من أجل تحرير المحتجزين الإسرائيليين". وتضيف أنه في الوقت الذي تعلق الأمر بتحرير محتجزات لدى "حماس" قامت الحكومة "بشمل مواطنات فلسطينيات ضمن صفقة نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، معتبرة إياهن جزءاً من أسيرات العدو". ويبدو أن إسرائيل، وفق بكر، أدركت بعد أحداث هبة القدس والأقصى أن "تفريغ مواطنة الفلسطينيين من مضمونها وتحويلهم إلى شفّافين بلا مكانة قانونية يمكن أن يتم برعاية القانون ومن دون إراقة دماء"، موضحة أنه "بدلاً من منع المواطنين من التعبير عن تضامنهم مع أبناء شعبهم عبر إطلاق النار العشوائي، تحارب كل عنصر يذكّر بانتمائهم القومي بتحويله إلى عدو". الأسرلة ومعركة الوعي شكّلت أحداث الانتفاضة الثانية (سبتمبر 2000) إلى جانب هبة القدس والأقصى في الداخل، بحسب الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي، خالد عنبتاوي، "منعطفاً وفصلاً جديداً في العلاقة بين المجتمع الفلسطيني في الداخل والمؤسسة الإسرائيلية". يقول عنبتاوي لـ"العربي الجديد" إنه "لا بد من التأكيد بأنها كانت انتفاضة سياسية (هبة القدس والأقصى) بوصفها هبة عبرت عن انتماء الداخل لقضية الشعب الفلسطيني بعد أن عمّت معظم بلدات الداخل الفلسطيني وارتقى فيها 13 شهيداً، أي لم يخرج الداخل لقضية مطلبية أو خدماتية، بل سياسية بالدرجة الأولى". وفي رأيه أسقطت هبة القدس والأقصى "أوهام الأسرلة والاندماج المشوّه، وأكدت ورسّخت الوعي الوطني، مراكمة بذلك على هبّات سبقتها كيوم الأرض 1976 والروحة (في وادي عارة) 1998، وغيرها من المحطات التي أكد فيها الداخل عمق ارتباطاته وانتمائه للمشروع الوطني الفلسطيني". خالد عنبتاوي: كل جيل فلسطيني يأتي يعبّر عن انتمائه وهويته السياسية ويؤكدها ويراكم عليها ويضيف أن "المؤسسة الإسرائيلية شخّصت ذلك وعملت على إعادة تعريف بعض تقنيات سياستها تجاه المجتمع في الداخل لناحية اشتداد بعدي الضبط والقمع السياسي من جهة، والاحتواء المشروط والمبتور، على المستوى الاقتصادي من جهة ثانية". كان ذلك، وفق عنبتاوي، استنتاجات "لجان حكومية تشكلت على إثر لجنة أور 2001"، مشيراً إلى أنه ليس صدفة إذاً وجود سلسلة قوانين عنصرية خلال العقدين الأخيرين، على رأسها قانون القومية، فضلاً "عن قضم مساحات العمل السياسي الوطني وملاحقة التنظيم الوطني الحزبي وغير الحزبي، أي مشروع تفكيك سياسي للمركز السياسي الوطني في الداخل". تقاطع مع كل ذلك، بحسب عنبتاوي، "مشروع محاولات احتواء وإعادة هندسة للنخب الاقتصادية في الداخل لمحاولة نسج معادلة مفادها الامتيازات مقابل التنازلات". ويقول عنبتاوي إنه "مع ما يعيشه المجتمع من تفكيك اجتماعي متمثّل بكارثة الجريمة والعنف التي استشرت خلال العقدين الأخيرين وبتواطؤ مؤسساتي ورسمي، حدث انحسار سياسي ملحوظ وتراجع، تمثّل بسطوة خطاب التأثير بشروط إسرائيل مثلاً، أو التركيز على القضايا الحياتية وفصلها عن الأجندات أو القضايا الوطنية الجماعية، وهو فصل موهوم بطبيعة الحال". ويرى أن "استمرار الداخل دوماً، ورغم ما حدث من ترهل وانحسار، في مناهضة الأسرلة والتعبير الدائم عن انتمائه، سواءً بالهبة الشعبية عام 2000 أو الهبات التي تلتها: هبة برافر 2013 (ضد مشروع قانون يستهدف هدم عشرات القرى معظمها في النقب)، وهبة الشهيد أبو خضير 2014 (استشهد الفتى محمد أبو خضير على يد مستوطنين حرقاً بعد اختطافه)، وهبة الكرامة في أيار 2021 والحراك المناهض للجريمة وغيرها... يؤكد ذلك أن كل جيل فلسطيني يأتي، يعبّر عن انتمائه وهويته السياسية ويؤكدها ويراكم عليها". ويوضح أن ذلك "لا يعني أن مشروع الأسرلة ومخاطرها انعدمت أو تلاشت، فأسبابها العميقة وشروطها لا تزال قائمة في الواقع المركب في الداخل، وهو واقع المواطنة الإسرائيلية وما يخلقه من ظروف يحاول الداخل فيها تأكيد مشروعه الوطني حتى ضمن ظرفه الماديّ المركب". ويضيف: "هنا يأتي دور الفواعل السياسية والاجتماعية في المحافظة على حاجتين وجوديتين للحركة الوطنية في الداخل: مأسسة المجتمع الفلسطيني وتنظيمه بمؤسسات جماعية ترفع من مناعته السياسية والاجتماعية، والمحافظة على الخطاب والموقف السياسي الوطني وثوابته، أي معركة الوعي التي لم ولن تنطوي".
بتاريخ:  2025-10-01


التعليقات على الموقع تعكس آراء كتابها ولا تعكس آراء الموقع.
يمنع أي لفظ يسيء للذات الالهية أو لأي دين كان أو طائفة أو جنسية.
جميع التعليقات يجب أن تكون باللغة العربية.
يمنع التعليق بألفاظ مسيئة.
الرجاء عدم الدخول بأي مناقشات سياسية.
سيتم حذف التعليقات التي تحوي إعلانات.
التعليقات ليست للتواصل مع إدارة الموقع أو المشرفين. للتواصل يرجى استخدام صفحة اتصل بنا.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
يجب ملىء حقل الاسم.
يجب ملىء حقل العنوان.
يجب ملىء حقل الرساله.
الاكثر مشاهدة
للاعلى تشغيل / ايقاف للاسفل