أخر الأخبار » العربي

لعبة العروش في إمبراطورية الذكاء الاصطناعي

يذكّر الاندفاع المحموم لأسهم وصفقات شركات الذكاء الاصطناعي ومشتقاتها في الأسواق العالمية بحمى الذهب، التي عرفها العالم في فترات مختلفة من القرن العشرين، حين كان الناس يرحلون فرادى وجماعات إلى مناطق التنقيب عن الذهب وفي مخيلتهم أمر واحد هو حلم الثراء. ألهمت حمى الذهب في الغرب الأميركي روايات وأفلاماً كثيرة، صحيح أن بعض الناس أثروا، لكن ليس غالبيتهم. يتكرر الحلم نفسه في تاريخ أحدث ربما عاشه كثيرون منا وهو فورة "الدوت كوم" في العقد الأخير من الألفية الماضية. كانت الإنترنت أمل العالم وكان كل رأسمال مغامر يستثمر في منتجاتها، من محركات البحث إلى المواقع إلى التطبيقات، نعم تعاظم اقتصاد الإنترنت لسنوات قليلة، لكن الفقاعة انفجرت في نهاية المطاف، وما نجا من استثمارات تلك الحقبة وتعاظم هو القليل، أما الكثير فلم يقو على المنافسة فاستحوذت عليه كيانات أكبر أو ذهب إلى ما بات يعرف بعد ثلاثة عقود تقريباً بـ"مقبرة التكنولوجيا". لا أزعم أنني خبير في اقتصاديات التقنية الفائقة، لكنني أزعم أنه حين يجري الحديث عن إمبراطورية الذكاء الاصطناعي ولعبة العروش فيها، وصفقاتها وأرقامها، يختلط الواقعي بالخيالي، فلا يجد المراقب المحايد ما يركن إليه لتفسير ذلك الصعود الخيالي لقطاع لا يزال يحبو ويتم تصنيفه فعلياً من الخبراء بـ"الاقتصاد المغامر". قد يفوز باللذات كل مغامر كما يقول الشاعر العربي، لكن أيضاً لا يقوم عالم الأرقام والاقتصاد على منطق الحظ الذي قد يبتسم لمطعم أو بقالة صغيرة في شارع جانبي. منذ بداية العام الجاري لا يمر يوم واحد تقريباً من دون عنوان رئيسي في الصحافة الاقتصادية عن صفقة ترتبط بالذكاء الاصطناعي وأطرافه المختلفة، من شركات البرمجيات إلى الحوسبة السحابية إلى مصنعي الرقائق، إلى مراكز المعلومات، للدرجة التي تحول معها الذكاء الاصطناعي خلال العام الجاري إلى اقتصاد قائم بذاته، يقود أداء سوق الأسهم الأميركية ويذكر بفترة اكتشاف محركات البخار أو البترول إبان صعود الثورة الصناعية وتطورها. ولأن الأرقام تولّد أرقاماً والصفقات الصغيرة تقود إلى أخرى أكبر، يحجم كثيرون عن الطعن باقتصاد الذكاء الاصطناعي، الذي وفد على الأسواق المالية قبل عامين تقريباً، خوفاً من أن يُوجه إليهم الاتهام بالهرطقة بحق ما تحول إلى بقرة وول ستريت المقدسة.  خلال شهر سبتمبر/أيلول وحده فقط، كانت أرجاء وول ستريت ترتج على وقع صفقتين كبيرتين أبرمتهما شركة أوبن إيه آي صاحبة التطبيق الأكثر شهرة "تشات جي بي تي"، والتي لم تقرر حتى اللحظة هل تتحول إلى شركة مدرجة في البورصة، أم تبقى شركة لا تهدف إلى الربحية، أم تجمع بين الاثنين لتصبح ذات ربحية محدودة.  الصفقة الأولى كانت مع عملاق البرمجيات أوراكل وتتضمن عقود حوسبة سحابية تبلغ قيمتها 300 مليار دولار على أن يبدأ تطبيق هذه العقود في عام 2027. ولأن الكلمة في عرف الأسواق المالية أمضى من السيف، حتى وإن كان في غمده، صعدت أسهم "أوراكل" على الفور بأكثر من أربعين في المئة لتصبح قيمتها السوقية أكثر من 980 مليار دولار في يوم واحد، ولتصعد معها ثروة رئيسها لاري إليسون بمقدار 101 مليار دولار وتصبح 393 ملياراً ويعتلي عرش الثراء عالمياً لمدة يوم واحد. لا تدهش كثيراً لو قارنت أرقام القيمة السوقية للثروة أو الشركة بحكايات "الجنيّات". في النهاية تظل أرقاماً على ورق، يمكن أن تصمد لعام أو عامين ويمكن أن تذروها الرياح في اليوم التالي بسبب خبر عابر يتعلق بأداء الشركة أو صحة رئيسها أو سمعته. لكن بعيداً عن مفردات المجاز العربي، يمكنك القول بضمير مستريح إن إعلان الصفقات الكبيرة في قطاع الذكاء الاصطناعي أصبح يخدم سمعة وأسهم الأطراف المرتبطة بمشتقاته والتي تتطلع إلى يوم يصبح فيه الذكاء الاصطناعي معادلاً للنفط أو الذهب. فلكي توفي "أوراكل" بهذه الصفقة، التي يعتقد أنها الأكبر على الإطلاق في قطاع الحوسبة السحابية يتعين عليها توليد كهرباء لعملياتها تعادل 4.5 غيغاوات، وهو يعادل ما يستخدمه أربعة ملايين منزل أميركي من الطاقة سنوياً. ولكي توفي "أوبن إيه آي" بنصيبها من الصفقة، أي سداد 60 مليار دولار سنوياً لـ"أوراكل"، يتعين عليها التحول إلى الربحية، وهذا لم يحدث حتى الآن، فالشركة خاسرة وستظل خاسرة حتى عام 2029 كما يؤكد رئيسها الطموح سام ألتمان، وحتى هذه اللحظة لا تزيد عوائد الشركة عن 10 مليارات دولار سنوياً، وهو يتوقع لها أن تخسر 44 مليار دولار حتى موعد الربح المؤجل بعد أربع سنوات.  أما الصفقة الثانية التي تحققت فتمثلت في إعلان "إنفيديا"، عملاق صناعة الرقائق، ضخ استثمارات بقيمة 100 مليار دولار في "أوبن إيه آي"، وهو ما اعتُبر في عرف وول ستريت تصويتاً بالثقة على مشروع ألتمان الحالم الذي يلتهم استثمارات بمئات المليارات. وكما حدث مع "أوراكل"، صعدت أسهم "إنفيديا" لتزيد قيمتها السوقية بما يوازي 170 مليار دولار في يوم واحد، وتعزز موقع "أوبن إيه آي" بفضل هذه الثقة التي يكتسبها من شركة عالمية راسخة.  هذه الصفقات التي ترفع قيمة شركائها بقوة لمجرد وعود قد تتحقق وقد لا تتحقق، دفعت مراقبين عديدين إلى الحديث عما يسمى بـ"التدوير" في قطاع الذكاء الصناعي، فحين تضخ "إنفيديا" 100 مليار في مشروع "أوبن إيه آي"، سيشتري الأخير منها رقائق بـ 35 مليار دولار مقابل كل عشرة مليارات من الاستثمارات التي ضختها. والمعادلة بسيطة، مشروعات ناشئة ومغامرة للذكاء الاصطناعي تحتاج إلى دعم العمالقة مثل "أوراكل" و"إنفيديا" و"مايكروسوفت" بدلاً من اللجوء إلى الاقتراض بأسعار فائدة عالية من البنوك.  في الآونة الأخيرة بدأت الأصوات تتساءل عن هذه الصفقات، وماذا بعد؟ فنموذج "أوبن إيه آي" ورئيسها يبدو طموحاً وحالماً بلا حدود، والمستثمرون، بمن فيهم صناديق سيادية للدول وصناديق توظيف أموال من شتى بقاع الأرض، تضخ أموالها بثقة على أمل أن تتحقق الوعود التي سيسيطر فيها الذكاء الاصطناعي على مقاليد الاقتصاد ويصبح نفط العصر الجديد. لا أقول إن ذلك لن يحدث، ولكن حتى يحدث من المؤكد أن كثيراً من المشروعات سوف تفشل والاستثمارات سوف تضيع، وهو ما حذر منه ألتمان نفسه في أغسطس/آب الماضي عندما قال إن إثارة مفرطة تعتري المستثمرين في القطاع، وإن ذلك قد يؤدي إلى فقاعة تماثل ما حدث مع "الدوت كوم". رغم ذلك يروج ألتمان مشروع ستارغيت العملاق بتكلفة 500 مليار دولار على مدى أربع سنوات تشمل كل البنية الشاملة للذكاء الاصطناعي من الرقائق إلى مراكز المعلومات إلى الحوسبة السحابية إلى هواتف ذكية بديلة. ولأن الدنيا أرزاق، يجد ألتمان من يصدقه ويموله رغم أنه قال لهم في أغسطس/آب: "لا تفعلوا".
بتاريخ:  2025-10-01


التعليقات على الموقع تعكس آراء كتابها ولا تعكس آراء الموقع.
يمنع أي لفظ يسيء للذات الالهية أو لأي دين كان أو طائفة أو جنسية.
جميع التعليقات يجب أن تكون باللغة العربية.
يمنع التعليق بألفاظ مسيئة.
الرجاء عدم الدخول بأي مناقشات سياسية.
سيتم حذف التعليقات التي تحوي إعلانات.
التعليقات ليست للتواصل مع إدارة الموقع أو المشرفين. للتواصل يرجى استخدام صفحة اتصل بنا.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
يجب ملىء حقل الاسم.
يجب ملىء حقل العنوان.
يجب ملىء حقل الرساله.
الاكثر مشاهدة
للاعلى تشغيل / ايقاف للاسفل