أخر الأخبار » العربي

لماذا تفشل اتفاقيات وقف إطلاق النار؟

على عكس معظم اتفاقات وقف إطلاق النار التقليدية، افتقرت المبادرة التي قادتها الولايات المتحدة في غزّة أخيراً إلى عناصر رئيسة، ما أسفر عن فشلها في وقف عمليات القتل الاحتلالي. ما كشفته عمليات وقف إطلاق النار الفاشلة في غزّة، كما في لبنان، تراجع الالتزام الأميركي الفعلي. فعلى الرغم من إعلان هذا الوقف، وقبوله من أطراف النزاع، واصل الجيش الإسرائيلي (خصوصاً سلاحه الجوي) عملياته المميتة يومياً. أسفرت الهجمات الإسرائيلية التي نُفِّذت في غزّة، منذ دخول وقف إطلاق النار (توسّطت فيه الولايات المتحدة) حيّز التنفيذ في 10 أكتوبر/ تشرين الأول، عن مقتل 342 فلسطينياً، وفقاً لوزارة الصحّة ومكتب الإعلام الحكومي في غزّة، كما أفادت منظّمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) بمقتل 67 طفلاً على الأقلّ منذ بدء وقف إطلاق النار. وفي الفترة نفسها، أُبلغ عن مقتل ثلاثة جنود إسرائيليين داخل القطاع أو بالقرب منه، ولم تُسجَّل أيُّ وفيّاتٍ بين المدنيين الإسرائيليين داخل إسرائيل خلال تلك الفترة. في غضون ذلك، قُتل مئات الأشخاص في لبنان منذ دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ قبل عام، وقتل خمسة لبنانيين، بينهم ضابط كبير في حزب الله، في قصف هزَّ الضاحية الجنوبية لبيروت الأسبوع الماضي. ما كشفته عمليات وقف إطلاق النار الفاشلة في غزّة ولبنان هو تراجع الالتزام الأميركي على عكس معظم اتفاقات وقف إطلاق النار التقليدية، افتقرت المبادرة التي قادتها الولايات المتحدة في غزّة إلى عناصر أساسية؛ فقد فشلت في تضمين عنصرَين حاسمَين لإنهاء الأعمال العدائية: آلية مراقبة ميدانية قوية مُخوَّلة بالإبلاغ عن الانتهاكات، وخريطة طريق سياسية واضحة تعالج الأسباب الجذرية للصراع. وللإنصاف، تشير خطّة الولايات المتحدة، المكوَّنة من 20 نقطة، إلى الحاجة إلى قوة استقرار دولية مؤقَّتة. لكنّ الاتفاق لم يوضّح مَن سيشكِّلها، ولا حدّد تفويضاً واضحاً لعملياتها، ولا حتى سقفاً زمنياً لبدء عملها. وقد ذُكر في الإعلام أنها قد تتشكَّل في منتصف الشهر المقبل (يناير/ كانون الثاني). وقد منح هذا الغموض إسرائيل مخرجاً سهلاً للاستمرار في العدوان والقتل. رفضت إسرائيل من جانب واحد مشاركة قوات من تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) وذات الأغلبية المسلمة، وكانت قد رفضت في وقت سابق أيَّ دور لقطر، بدعوى قرب البلدَين من حركة المقاومة الإسلامية (حماس). واقترحت إسرائيل أذربيجان، لكن الأخيرة أعلنت سريعاً انسحابها من المشروع، كما فعلت الأردن والإمارات سابقاً. يكمن جوهر هذا التردّد في غياب مهمّة واضحة. فمعظم قوات مراقبة وقف إطلاق النار مكلَّفة بالمراقبة والإبلاغ فقط، وليس بالتدخّل أو وقف الانتهاكات أو نزع سلاح المقاتلين. تدعو الخطّة الأميركية، التي أقرّها مجلس الأمن لاحقاً، إلى تحويل غزّة منطقةً منزوعةَ السلاح، لكنّها لا تحدّد من سينفّذ هذا التجريد من السلاح. تصر "حماس" على أن مسألة المقاومة المسلحة شأن فلسطيني بحت، ولا يحقّ لأيّ قوة أجنبية نزع سلاح مقاتليها. حتى مسألة توفير ممرٍّ آمنٍ لنحو مئتين من مقاتلي المقاومة المختبئين في الأنفاق أصبحت محلَّ جدل، إذ طالب القادة الإسرائيليون (المتلهّفون لصور استسلام الفلسطينيين) بإلقاء أسلحتهم قبل السماح لهم بالمغادرة. الغريب أن الدبلوماسي الأميركي الأسبق، دان كيرتزر، وهو يُدرِّس في جامعة برينستون، وشغل منصب سفير أميركا في القاهرة وتل أبيب، نشر مقالاً مهماً في مجلة ذا أتلانتك يدعو فيه بشدّة إلى ضرورة مشاركة تركيا في القوة التي ستعمل في غزّة، معلّلاً موقفه بأنها الدولة الوحيدة القادرة على تنفيذ ما يريده المجتمع الدولي في غزّة، نظراً إلى خبرتها الهندسية والعسكرية وعلاقاتها مع "حماس"، ما يؤهّلها لتهدئة الأزمة المتعلّقة بسلاح المقاومة. ومن الواضح أن رفض إسرائيل دور تركيا يعود إلى رغبة رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو في استمرار حالة عدم الاستقرار، لأن أيَّ حلٍّ جذري سيعني نهاية حياته السياسية. تُلقي إسرائيل العصا في العجلة باستمرار، باحثةً عن ذرائع لتأخير الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق، التي تشمل إعادة فتح معبر رفح، والسماح بدخول مزيد من المساعدات الإنسانية والمعدّات الثقيلة لنزع الركام. في الأسبوع الماضي، كشف رئيس غرفة تجارة غزّة أن القيود الإسرائيلية غذّت سوقاً سوداء استُخرج منها ما يقارب مليار دولار من "رسوم التنسيق"، ممّا أفاد كلّاً من الإسرائيليين والفلسطينيين المتورّطين في هذا النظام الفاسد. ويُبرز تصريحه مفارقةً مريرةً؛ فالمجال الوحيد للتعاون الحقيقي بين الإسرائيليين والفلسطينيين هو الجريمة والفساد. "المنطقة بحاجة إلى قوة حفظ سلام ذات مصداقية، وعملية سياسية جادّة تعالج القضايا الجوهرية وراء الصراع السبب الثاني لفشل وقف إطلاق النار غياب أيِّ انخراط سياسي جادّ. ترفض إسرائيل رفضاً قاطعاً أيَّ دور لسلطة رام الله في غزّة، كما يقوّض نتنياهو مراراً وتكراراً آفاق قيام دولة فلسطينية. ويبدو أن إحباط واشنطن المتزايد من نتنياهو وراء البند المدرج في قرار مجلس الأمن 2803 الداعي إلى حوار فلسطيني - إسرائيلي، وافقت الولايات المتحدة على استضافته، رغم عدم الإعلان عن موعد أو تفاصيل. ما كشفته عمليات وقف إطلاق النار الفاشلة في غزّة ولبنان في النهاية تراجع الالتزام الأميركي، فقد استثمرت إدارة ترامب بكثافة في وقف إطلاق النار في غزّة، طالما ظلَّ المحتجزون الإسرائيليون في الأسر. وبمجرّد إطلاق سراحهم، وهدوء الجبهة الشمالية، تحوّل انتباه واشنطن إلى أوكرانيا. لكن استمرار المشاركة الأميركية سيكون حتمياً إذا استمرّ الجمود الحالي. غزّة والضفة الغربية ولبنان قنابل موقوتة. المنطقة بحاجة ماسّة إلى أمرَين: قوة حفظ سلام ذات مصداقية بتفويض صارم لرصد الانتهاكات والإبلاغ عنها، وعملية سياسية جادّة تعالج القضايا الجوهرية الكامنة وراء الصراع. من دون هذَين، يظلّ وقف إطلاق النار الحقيقي بعيد المنال.
بتاريخ:  2025-12-01


التعليقات على الموقع تعكس آراء كتابها ولا تعكس آراء الموقع.
يمنع أي لفظ يسيء للذات الالهية أو لأي دين كان أو طائفة أو جنسية.
جميع التعليقات يجب أن تكون باللغة العربية.
يمنع التعليق بألفاظ مسيئة.
الرجاء عدم الدخول بأي مناقشات سياسية.
سيتم حذف التعليقات التي تحوي إعلانات.
التعليقات ليست للتواصل مع إدارة الموقع أو المشرفين. للتواصل يرجى استخدام صفحة اتصل بنا.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
يجب ملىء حقل الاسم.
يجب ملىء حقل العنوان.
يجب ملىء حقل الرساله.
الاكثر مشاهدة
للاعلى تشغيل / ايقاف للاسفل