أخر الأخبار » العربي

الوجه الآخر للعالم

في ظاهر العالم نرى نهضةً وتقدّماً وتطوّراً تقنيّاً يبهر الأبصار، غير أنّ خلف هذا الوهج تختبئ طبقاتٌ من التعقيد والاضطراب تشكّل ما يمكن تسميته الوجه الآخر للعالم؛ ذلك الوجه الذي لا يُعرض في نشرات الأخبار إلا لماماً، ولا يُناقش في ساحات السياسة إلا إذا فرض نفسه بقوة. في هذا الجانب الموارب، تتحرك الثروة لا بوصفها وسيلة معاش، بل بما هي قوة تُملِي اتجاه الرياح السياسية وتخطّ ملامح القرارات الكبرى. فخلف كثير من الخلافات التي تبدو فكرية أو مبدئية، تقبع منافسات حادّة على النفوذ الاقتصادي والسيطرة على الموارد. وحين يشتعل فتيل النزاعات، ينهض في الخلف اقتصادٌ كامل يتغذّى على القلق والصراع، ويجد في استمرار الاضطراب فرصة لزيادة العائدات، خصوصاً عبر أسواق السلاح التي تزدهر كلما يضطرب العالم ويحتدم التوتر. ولا يقف هذا الوجه الآخر عند حدود الصراعات بين الدول، بل يمتد إلى داخل المجتمعات نفسها، حيث تُدار صناعة الإلهاء بمهارة، وتُطلق موجات من الترفيه السطحي والضوضاء الإعلامية لتشتيت بوصلة الوعي، ولاسيما لدى الشباب. فحين تضعف القدرة على التمييز بين المهم والعارض، يسهل دفع الأجيال إلى مسارات يتحكم بها من يعرف كيف يوظّف الفوضى لصالحه. وفي قلب هذه الفوضى يبرز اقتصاد خفي لا يعلن نفسه، لكنه يتحرك بفاعلية مقلقة. حين تضعف القدرة على التمييز بين المهم والعارض، يسهل دفع الأجيال إلى مسارات يتحكم بها من يعرف كيف يوظّف الفوضى لصالحه فشبكات تستغل حاجات المجتمعات وضعف الرقابة، تنشر المواد المدمّرة وتحوّلها من ظاهرة خطيرة إلى تجارة واسعة، تستفيد من تدهور الوعي وتعطّل الأمان الاجتماعي. إن تجارة المخدرات—حين تُفهم ببعدها العميق—ليست مجرد فعل غير قانوني، بل هي منظومة ربحية تدرك الجهات المستفيدة منها أن إضعاف الأجيال يفتح أبواباً هائلة للربح، ويُبقي المجتمعات معلّقة بين الانشغال واليأس. ومثلها في ذلك التجارة بالجنس التي تُستغل فيها هشاشة الواقع الاجتماعي لتكوين شبكات تربح من تحويل الإنسان ذاته إلى سلعة. فهي ليست انحرافاً اجتماعياً فحسب؛ بل أداة اقتصادية قائمة على الاستغلال، تُنشئ بيئات تساعد على استمرارها، وتخلق الحاجة التي تبرّر وجودها، وتُخفي وراءها أطرافاً تعرف جيداً كيف تستفيد من الظلال. وتتداخل هذه المنظومات مع بعضها لتشكّل شبكة واسعة من المصالح تتحرك بخفاء، غير عابئة بما تتركه وراءها من آثار نفسية واجتماعية. فحين تُترك الأزمات بلا علاج، وتُغذّى النزاعات بدل إطفائها، ويُستنزف الشباب في دوائر لا تبني ولا ترفع، يكون المستفيد الحقيقي هو تلك القوى التي تعرف أن اضطراب العالم ثروةٌ بحد ذاته. وليس المقصود أن نُنزِل على العالم أحكاماً قاطعة، أو أن نُلبِس كل جهة عباءة التآمر، لكن تجاهل أثر النفوذ الاقتصادي في تشكيل المشهد سيكون تبسيطاً مخلاً. فالثروة—حين تتضخم—تصبح يداً خفية قادرة على إعادة رسم خرائط النفوذ، وصناعة القضايا، وتحديد ما يراه الناس وما يغيب عنهم. إن الوعي بهذا الوجه الآخر لا يراد منه إشاعة الخوف، بل إعادة فتح أعينٍ ألفت الواجهة ونسيت الأعماق. فالعالم لا يُفهم من سطحه، بل من قراءة ما يجري في ظلاله، ومن إدراك أن وراء كل ضجيج قوة تعرف كيف تستثمره، ووراء كل صمت حساباً يُرتّب في الخفاء.
بتاريخ:  2025-12-01


التعليقات على الموقع تعكس آراء كتابها ولا تعكس آراء الموقع.
يمنع أي لفظ يسيء للذات الالهية أو لأي دين كان أو طائفة أو جنسية.
جميع التعليقات يجب أن تكون باللغة العربية.
يمنع التعليق بألفاظ مسيئة.
الرجاء عدم الدخول بأي مناقشات سياسية.
سيتم حذف التعليقات التي تحوي إعلانات.
التعليقات ليست للتواصل مع إدارة الموقع أو المشرفين. للتواصل يرجى استخدام صفحة اتصل بنا.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
يجب ملىء حقل الاسم.
يجب ملىء حقل العنوان.
يجب ملىء حقل الرساله.
الاكثر مشاهدة
للاعلى تشغيل / ايقاف للاسفل