أخر الأخبار » العربي

توسيع دوائر الخوف في تونس

تعيش تونس منذ أسابيع فتراتٍ عصيبةً من تاريخها، في ظلِّ تصعيد غير مسبوق تقريباً يستهدف النشطاءَ السياسيين والحقوقيين على اختلاف انتماءاتهم وتوجّهاتهم. ربّما كان العنصر الأكثر عدلاً في توزيع السلطة السياسية، الذي لم يُستثنَ منه طرف، التضييق على الحريات الفردية والجماعية. لقد أصدرت محكمة الاستئناف (الدرجة الثانية) أحكاماً قاسية على ما يناهز 40 مواطناً (مناضلين سياسيين وحقوقيين) فيما يُعرف بقضية التآمر، وصل بعضها إلى ما يناهز أربعة عقود من السجن، وبعضهم في السجن مدّة قاربت السنتَيْن، أما الآخرون ففي حالة سراح على غرار المحامي نجيب الشابي (رئيس جبهة الخلاص الوطني)، وهو المُسنُّ الذي يبلغ ما يفوق ثمانين سنة، فضلاً عن المحامي اليساري الديمقراطي العياشي الهمامي، والناشطة النسوية شيماء عيسى التي اعتُقلت في مسيرة السبت الماضي أمام أعين المشاركين بشكل فظٍّ، خلنا أننا تجاوزناه إلى الأبد، وقد صدر أمس حكم عليها بالسجن 20 سنة. لا يزال الشرخ قائماً بين حركة النهضة وبعض أقصى اليسار؛ جزء يشترط اعتذارها، وجزء يرفض مشاركتها حتى في المسيرات تصدر هذه الأحكام بعد يوم من إطلاق سراح الإعلامية والمحامية سنية الدهماني التي انتفعت بقانون السراح الشرطي، بعد أن قضت أكثر من سنة ونصف السنة سجناً لأجل ما اعتبره القضاء شجباً وتصريحات مسيئة للبلاد، وهي التي غدت كلماتها التي حوكمت من أجلها شعاراً يُرفع في التظاهرات الجارية حالياً: "هايلة البلاد". وقد قالتها في إحدى الحصص الإعلامية تعليقاً على ادّعاء السلطة أن تونس غدت جاذبة للمهاجرين الأفارقة. والحال أنها غدت، حسب تلك العبارة، طاردة، وأن لا شيء في تونس جيّد ومفرح، حتى تغدو مقصداً لهؤلاء المهاجرين. تصدر هذه الأحكام وتتوالى الإيقافات، بعد مسيراتٍ تتالت في الأسابيع الماضية؛ ففي السبت الماضي نُظِّمت مسيرة "ضدّ الظلم"، وقد توشّح المتظاهرون بالسواد يعلنون حدادهم على بلاد توغّلت في مظاهر الانغلاق السياسي، وقد دعت إليها عائلة المحامي أحمد صواب، الذي يقبع في السجن ويُحاكم بعد أن صرّح تلميحاً بأن رقاب القضاة تحت سيف السلطة التنفيذية، والغريب أن القضاء اعتبر ذلك ترهيباً لهم. يتواتر إصدار الأحكام الثقيلة في حقّ النشطاء السياسيين والمدنيين، خصوصاً أن شهر ديسمبر/ كانون الأول الحالي سيشهد أكبر عدد من المحاكمات السياسية، ما يُرجِّح أن يكون شهر الأحكام القضائية القياسية من حيث العدد ومدّة السجن، خصوصاًُ أنها ثقيلة تتجاوز في متوسّطها عقدَيْن، تصدر عن "جرائم" لا ترتقي (على افتراض حدوثها) إلى مثل هذه العقوبات القاسية. تجري هذه الأحداث في مناخ سياسي شديد الاحتقان، غير أن السلطة تحرص على تحويل هذه المحاكمات جزءاً من "حرب التحرير التي تخوضها" ضدّ من تسمّيهم "أعداء الوطن" و"الخونة" و"المتآمرين". ولقد حرصت، والأحكام الثقيلة تلك تصدر تباعاً، على أن يستدعي رئيس الجمهورية سفير الاتحاد الأوروبي، ليبلغه احتجاجه على "التدخّل السافر" في شؤون البلاد، كما ورد في صفحة الرئاسة في "فيسبوك"، كما استدعى وزيرُ الخارجية سفيرة هولندا، ليبلغها أيضاً احتجاجه على "تدخّلها في الشأن الداخلي"، وهي عبارة توردها السلطة السياسية مرادفاً ضمنياً لمطالبة هذه البلدان بإيقاف مسلسل الاعتقالات والمحاكمات والاعتداءات على حقوق الإنسان التي تستهدف المعارضين السياسيين. كما أن هذه المحاكمات والإيقافات تجري في سياق داخلي يتّسم بسعي الفرقاء السياسيين إلى تقريب وجهات النظر بينهم، خصوصاً وقد شهدت "مسيرة الحداد" التي انتظمت السبت الماضي (22/11/2025) حضور مختلف أحزاب المعارضة والنشطاء الحقوقيين من جمعيات نسائية وبيئية وحقوقية، ما عدّه بعضهم خطوة مهمة في البحث عن المشترك الوطني، وتجاوز معارك الإقصاء المتبادل. تصبح المعارضة عائقاً أمام تعزيز صفوفها حين تتحوّل الانقسامات الأيديولوجية هديةً مجّانية لسلطةٍ تضيّق على الحريات بلا كلفة سياسية حقيقية أما مسيرة السبت الماضي "راجعات"، وقد دعت إليها بشكل بارز المناضلات النسويات، فشهدت حضورَ جلِّ العائلات السياسية أيضاً، باستثناء حضور محدود لقيادات حزب النهضة، في ظلّ ما يُشاع عن رغبة بعض المنظِّمين في استبعادهم. وبقطع النظر عن دقّة هذه التسريبات من عدمها، لا يزال الشرخ قائماً بين "النهضة" وبعض خصومها من أقصى اليسار، إذ ما زال بعضٌ منهم يشترط اعتذارها عمّا يعتبرونه أخطاء ارتُكبت أثناء حكمها، والحال أنه حتى المعارضة، بغلوِّها وعبثيتها وتحجّرها الأيديولوجي والسياسي، ساهمت في إفشال تجربة الانتقال الديمقراطي. أما بعضهم الآخر، فإنه يرفض أصلاً مبدأ الوجود المشترك معها حتى في المسيرات، ما يشكّل عائقاً حقيقياً لتعزيز صفوف المعارضة، ورفع قدرتها في مواجهة التضييق المستمرّ على الحريات. يتوقّع كثيرون أن تكون الأسابيع المقبلة حاسمة في مدى قدرة الفرقاء على لمّ شتاتهم، خصوصاً أن المحاكمات ستتواصل في نسق حثيث، لذلك فإن روزنامات المسيرات والتظاهرات بدورها ستتواتر، إذ يُتوقَّع أن تشهد العاصمة التونسية سلسلة من التحرّكات في أفق إحياء ذكرى الثورة التونسية (17 ديسمبر - 14 يناير/ كانون الثاني)، علاوة على جملة من التحرّكات الاجتماعية، في ضوء تفاقم مشاكل التلوّث والبطالة وغيرها، التي عجزت السلطة، بعد ما يناهز سبع سنوات من الحكم، عن مجرّد التخفيف منها.
بتاريخ:  2025-12-01


التعليقات على الموقع تعكس آراء كتابها ولا تعكس آراء الموقع.
يمنع أي لفظ يسيء للذات الالهية أو لأي دين كان أو طائفة أو جنسية.
جميع التعليقات يجب أن تكون باللغة العربية.
يمنع التعليق بألفاظ مسيئة.
الرجاء عدم الدخول بأي مناقشات سياسية.
سيتم حذف التعليقات التي تحوي إعلانات.
التعليقات ليست للتواصل مع إدارة الموقع أو المشرفين. للتواصل يرجى استخدام صفحة اتصل بنا.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
يجب ملىء حقل الاسم.
يجب ملىء حقل العنوان.
يجب ملىء حقل الرساله.
الاكثر مشاهدة
للاعلى تشغيل / ايقاف للاسفل