إلا أن هذه الاستثمارات تطرح تساؤلات جوهرية حول درجة الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية؛ إذ يُشير تحليل صادر عن معهد الخدمات الملكية المتحدة فى ٢٦ سبتمبر ٢٠٢٥، إلى أن هذه الشراكة، برغم فوائدها الاقتصادية الواضحة؛ قد تُقيد قدرة بريطانيا على تطوير قدرات ذكاء اصطناعى مستقلة حقاً، خاصة فى ظل الهيمنة الأمريكية على التقنيات الأساسية مثل الرقائق المتقدمة والخوارزميات الأساسية.
٣- الشراكة العلمية والبحثية المُعمقة: يُؤسس الاتفاق لبرامج بحثية مشتركة طموحة فى مجالات حيوية؛ حيث ينص على إقامة «برنامج رائد للذكاء الاصطناعى من أجل العلوم» بين وزارات الطاقة والصحة ومؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية ونظيراتها البريطانية، مُركزاً على أبحاث التكنولوجيا الحيوية المتطورة والطب الدقيق. وعلى صعيد الحوسبة الكمية، يُنشئ الاتفاق فرقة عمل مشتركة للمعايير القياسية تغطى أجهزة وبرمجيات وخوارزميات الحوسبة الكمية. وفى مجال الطاقة النووية المدنية، يُوائم الاتفاق بين هيئة التنظيم النووى الأمريكية ومكتب التنظيم النووى البريطانى لتبسيط وتسريع عمليات الترخيص؛ مُستهدفاً مراجعات تصاميم المفاعلات خلال عامين وترخيص المواقع خلال عام واحد.
وفى هذا السياق، أشاد تون لانغنغن، الخبير فى الطاقة بمعهد تونى بلير للسياسات العالمية، بالاتفاق لما تضمنه من مبدأ «الاعتراف المتبادل بالموافقات التنظيمية»؛ معتبراً أنه عنصر جوهرى للحفاظ على قدرة بريطانيا على المنافسة مع الصين وروسيا فى سباق الطاقة النووية المتقدمة، حسبما نقلت صحيفة سيتى إيه. إم. البريطانية. ومع ذلك؛ فإن نجاح هذه الشراكات العلمية يتوقف على قدرة بريطانيا على الاحتفاظ بمواهبها البحثية وجذب خبراء دوليين فى ظل منافسة عالمية شرسة. وفى هذا الإطار، حذّر معهد تونى بلير للسياسات العالمية، استناداً إلى استطلاع موسّع أجراه بالتعاون مع شركة Ipsos بين ٣٠ مايو و٤ يونيو ٢٠٢٥، من أن ٣٩٪ من البريطانيين يرون أن الذكاء الاصطناعى يُمثِّل خطراً على الاقتصاد، مقابل ٢٠٪ فقط يرونه فرصة، فيما يعتبر نحو ٥٩٪ أنه يُشكِّل خطراً على الأمن القومى. كما كشف الاستطلاع أن ٣٨٪ من المشاركين يرون أن نقص الثقة فى مخرجات الذكاء الاصطناعى هو العائق الأكبر أمام اعتماده، وأن الفوارق السكانية تؤدى دوراً فى تشكيل المُخيّلة الاجتماعية للبريطانيين؛ إذ تميل النساء أكثر من الرجال إلى اعتباره تهديداً.
التحديات الهيكلية وإشكاليات التمويل
برغم الطموحات البريطانية الكبيرة؛ يواجه الاتفاق تحديات هيكلية جوهرية، أبرزها قضية الطاقة؛ فالذكاء الاصطناعى يتطلب كميات هائلة من الطاقة، والمملكة المتحدة تواجه أعلى أسعار كهرباء فى العالم الصناعى؛ حيث ارتفعت تكلفة الكهرباء على الشركات الصناعية بنسبة ١٢٤٪ خلال خمس سنوات فقط بحسب صحيفة التليغراف. ولمواجهة هذا التحدى، أُنشئ مجلس طاقة الذكاء الاصطناعى فى مَطلع يناير ٢٠٢٥، وعقد اجتماعه الأول فى ٨ إبريل من العام نفسه بمشاركة ممثلين من قطاعات الطاقة والتكنولوجيا، بما فى ذلك مايكروسوفت، جوجل، أمازون ويب سيرفيسز، ناشونال غريد، وشركة إلكتريسيتى دو فرانس (EDF)؛ لضمان توفير الطاقة بكفاءة واستدامة للبنية التحتية للذكاء الاصطناعى، وتوزيع الموارد بشكل عادل بين الشركات الكبرى والناشئة والجامعات.
أيضاً، تُثير مسألة التمويل المستدام قلقاً كبيراً؛ ففى عام ٢٠٢٣، أعلنت حكومة ريشى سوناك عن مشاريع ضخمة، شملت تخصيص ٨٠٠ مليون جنيه إسترلينى لإنشاء حاسوب عملاق من فئة الإكساسكيل (فئة فائقة من الحواسيب العملاقة قادرة على إجراء مليار مليار عملية حسابية فى الثانية) فى جامعة إدنبرة، بالإضافة إلى ٥٠٠ مليون جنيه إسترلينى لموارد أبحاث الذكاء الاصطناعى، لتمويل قدرة الحوسبة المخصصة للذكاء الاصطناعى نقلاً عن تقرير صحيفة الجارديان. ومع ذلك، ألغت حكومة كير ستارمر هذه المشاريع فى أغسطس ٢٠٢٤ لأسباب مالية؛ معتبرةً أن هذه الالتزامات كانت «غير مُمولة».
إلى ذلك، تتطلب خطة توسيع قدرة الحوسبة السيادية بمقدار ٢٠ ضعفاً بحلول ٢٠٣٠ استثمارات هائلة فى البنية التحتية والمواهب، وقد أُعلن عن استثمار بقيمة مليار جنيه إسترلينى لتحقيق هذا الهدف بمشاركة شركات مثل هيوليت باكارد إنتربرايز (HPE)، ديل (Dell)، وإنفيديا (NVIDIA) بحسب وكالة رويترز.
يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل الشراكة التكنولوجية بين لندن وواشنطن على النحو التالى:
١- سيناريو النجاح الاستراتيجى والريادة المشتركة: فى حال نجحت المملكة المتحدة فى تنفيذ التزاماتها وحققت الاستثمارات الأمريكية أهدافها المُعلَنة، فقد تُصبح الشراكة بين لندن وواشنطن نموذجاً رائداً للتعاون التكنولوجى الدولى. هذا النجاح سيُمكنها من ترسيخ مكانتها كـ«قوة رائدة فى الذكاء الاصطناعى» دون التضحية بعلاقاتها مع بروكسل. كما قد يُؤدى إلى نمو اقتصادى ملموس، مع إمكانية زيادة الإنتاجية بالمعدل المُستهدف ١.٥٪ سنوياً، وخلق عشرات الآلاف من الوظائف عالية المهارة. فى هذا السيناريو، تُصبح لندن مركزاً عالمياً للابتكار فى الذكاء الاصطناعى، قادرة على تصدير حلولها التقنية وخبراتها للأسواق العالمية.
٢- سيناريو التبعية التكنولوجية والاستقطاب الجيوسياسى: إذا أخفقت لندن فى تطوير قدرات سيادية حقيقية واعتمدت بشكل مفرط على التكنولوجيا والاستثمارات الواردة من واشنطن، فقد تجد نفسها فى موقع تبعية «الارتهان التكنولوجى»Technological Lock-in. هذا السيناريو قد يُؤدى إلى توتر العلاقات مع الاتحاد الأوروبى الذى يتبنى مقاربة أكثر تنظيماً للذكاء الاصطناعى (Standard-setter)، ويُعرِّض بريطانيا لضغوط جيوسياسية فى حال تفاقُم التوترات بين الولايات المتحدة والصين.
٣- سيناريو التوازن التكيفى والمرونة الاستراتيجية: السيناريو الأكثر واقعية هو تحقيق نجاح جزئى مع استمرار التحديات؛ حيث تستفيد المملكة المتحدة من الاستثمارات الأمريكية لتطوير قدراتها مع الاحتفاظ بمرونة فى علاقاتها. وفى هذا السيناريو، تُطور المملكة المتحدة مقاربة براغماتية هجينة تجمع بين الاستفادة من الشراكة الأمريكية والحفاظ على التعاون مع الاتحاد الأوروبى. قد يشهد هذا السيناريو نمواً اقتصادياً محدوداً مع تطوير مدروس للقدرات السيادية؛ لكنه يتطلب إدارة دقيقة للتوازنات الجيوسياسية وثنائية (الابتكار والتنظيم)، وكذلك ضمان عدم الوقوع فى التبعية التكنولوجية.
ختاماً، يُمثِّل اتفاق الازدهار التكنولوجى رهاناً استراتيجياً مزدوجاً للمملكة المتحدة؛ فهو فرصة لتعزيز مكانتها كقوة تكنولوجية عالمية، أو مخاطرة بالانزلاق نحو «الارتهان التكنولوجى» طويل الأمد. فالاستثمارات الأمريكية تفتح آفاقاً واعدة للنمو الاقتصادى والابتكار؛ لكن التحدى الحقيقى يكمن فى قدرة لندن على تحويلها إلى قدرات سيادية مستدامة. والسؤال الأهم هنا ليس ما إذا كانت لندن ستستفيد من الشراكة الأمريكية؛ فالفوائد الاقتصادية المباشرة واضحة بالفعل، بل هو هل ستتمكن من الاحتفاظ باستقلاليتها الاستراتيجية فى عصر يُعاد فيه تعريف القوة عبر التكنولوجيا؟ النجاح فى هذا المسار يتطلب توازناً دقيقاً؛ الاستفادة من الشراكة الأمريكية دون الوقوع فى فخ التبعية، والحفاظ على علاقات متوازنة مع الاتحاد الأوروبى دون خسارة الفرصة الأطلسية.
والمؤشرات المبكرة من تشغيل مراكز البيانات فى والثام كروس ولوتون، إلى خلق عشرات الآلاف من الوظائف، وصولاً إلى تطوير الشركات الناشئة؛ ستكشف على المدى القصير أى السيناريوهات الثلاثة يتشكّل؛ الريادة المشتركة، أم التبعية التكنولوجية، أم التوازن التكيفى.
ومن هذا المنطلق، لن تُحدد كيفية إدارة لندن لهذه الشراكة مستقبل قطاعها التكنولوجى فحسب؛ بل موقعها الاستراتيجى فى النظام التكنولوجى العالمى المُعاد تشكيله.
بتاريخ: 2025-11-01
يمنع أي لفظ يسيء للذات الالهية أو لأي دين كان أو طائفة أو جنسية.
جميع التعليقات يجب أن تكون باللغة العربية.
يمنع التعليق بألفاظ مسيئة.
الرجاء عدم الدخول بأي مناقشات سياسية.
سيتم حذف التعليقات التي تحوي إعلانات.
التعليقات ليست للتواصل مع إدارة الموقع أو المشرفين. للتواصل يرجى استخدام صفحة اتصل بنا.