أخر الأخبار » العربي

لماذا أصبح زهران ممداني حديث الصباح والمساء؟

بحق، أصبح زهران ممداني عمدة نيويورك المنتخب "حديث الصباح والمساء"، والعبارة عنوان لرواية كتبها أديب نوبل نجيب محفوظ، تدور ثيمتها المحورية حول تشابه المصير بين جميع البشر على اختلاف أعراقهم وأنماط حياتهم التي ما فتئت تتناسخ وتتقافز من قطر إلى آخر، بوحي من العولمة الثقافية والإعلامية وعواقبها المؤدية إلى هيمنة الحدث الأميركي الخاص على ما سواه من فعاليات أينما كانت ووقتما لاحت، وربما كان هذا من حسن حظ الانتخابات البرلمانية المصرية و"قد حان وقت قطافها"، بالتعبير الحجاجي، بما يفترض أن يعنيه ذلك من معارك، في زمان آخر كانت ستصبح حديث القاصي والداني، إلا أن أحداً لم يحس بها اليوم، أو يسمع لها ركزاً، باستثناء مقاطع غرائبية مصورة للمرشحين، تطارد جمهور ما بات يعرف بـ"الريلز" أو دقائق الفيديو القصيرة، وهذه تصلح لأن توفر مادة دسمة تسلي جمهور برنامج "مواقف وطرائف" التلفزيوني المخضرم، فلم تثر الفعالية اهتماماً سياسياً وإعلامياً أو تطلق تفاعلاً فكرياً واقتصادياً وجدلاً قيمياً وثقافياً يتماثل أو يتجاسر على الاقتراب من نموذج ممداني وحملته الملهمة، وخطاب انتصاره البليغ المتداول بكثافة ليس بين المصريين وحدهم، وإنما عالمياً ولكل منطلقاته وأولوياته في مقاربة سرعان ما كشفت عن ارتباك ومعاناة "العقول البسيطة" في محاولتها لتفسير ما حدث، والسبب أبعاد شخصية زهران المتعددة والمركبة. إنه ليس ثلاثي الأبعاد، هذا الأفريقي الهندي المسلم المهاجر الشاب المثقف الاشتراكي المرح رجل العائلة المتمسك بقيمه، رافضاً إبقاءها في الظلال، لا يمكنك حصره في هوية واحدة، وهذا التعقيد سر إنجاز مزيج زهران العميق والإنساني والجذاب، الجميع يرون أنفسهم فيه، لكل منهم تقاطع ما مع إحدى صفاته أو اهتماماته ونموذجه المجسد لنجاح ثلاثية العلم والعمل والحلم، سعيا لتحمل تكاليف الحياة وتحسين المواصلات العامة وتوفير مساكن بأسعار معقولة. هذه بضاعته التي اشتراها ناخبوه، إلا أنها لا تخصهم وحدهم بل تصلح لأن تكون برنامجاً عالمياً، لذا رأى كثيرون حول العالم في انتخابه انعكاساً لمعاناتهم التي فجرت ثورات وانتفاضات في بلاد انسدت آفاق التغيير بها على العكس من موطنه الذي أتاح له أن يصبح أول عمدة مسلم للمدينة، وأصغرهم منذ أكثر من قرن، كما أنه أول عمدة مهاجر منذ سبعينيات القرن الماضي وصل إلى منصبه بعدما حصد أصوات تفوق ما فاز به أي مرشح للمنصب منذ عام 1969 ومن هنا حظي باهتمام دولي واسع، وأضحى شخصية عالمية بارزة لدى الشباب، وهم الأكثرية في دول قتلت الحلم وحاربت العلم واعتقلت من سعى إلى العمل، أي أن رمزية انتخابات كهذه تجاوزت حدود نيويورك بل والولايات المتحدة بأكملها، وسيكون لها ما بعدها، من إثارة أسئلة في وجه ثنائي الاستبداد والفساد، أهمها، فشلتم في إدارة شؤوننا، فلماذا لا تتركوننا نتنفس؟.. وهل لديكم من يصلح؟ هكذا سيكون ردهم. نعم، فعلى الرغم من كل القهر والانغلاق الذي نعيشه ظهرت نماذج وطنية لا تقل عن زهران حضورا وجاذبية، كمثل السياسي المصري أحمد الطنطاوي ويشتركان في كونهما قائدين شابين يجسدان صوت الجيل الجديد في مواجهة الاستبداد، وتتقاطع انتماءاتهم إلى أفكار العدالة الاجتماعية والموقف من قضية فلسطين، وبالطبع لكل منهما تباينات مرجعها الأساسي بنية النظام السياسي الذي يعمل فيه، لكن الطنطاوي وحالته الخطابية الرزينة والعاقلة والهادئة والمبتسمة التي جمعت حوله شباباً كانت لديهم أحلامهم في التغيير والعدالة الاجتماعية تصلح لتشبيهها بزهران وحملته، وبينما فشل الطنطاوي في محاولته الأولى من يدري لعل الثانية أو الثالثة تكون "ثابتة" كما يقول المثل فـ"طول العمر يبلغ الأمل"، طالما استمر العمل القائم على علم وفهم واستلهام من التجارب الناجحة، وعدم الالتفات إلى "المغلوشين" على كل حدث وأي محاولة عبر بث ترهات مثل، إنه إيراني الهوى وحجتهم في ذلك مقالة شاركها زهران قبل أعوام حول ما يجري في منطقتنا أو أنه "شيعي" وهل في هذا ما يشين؟ من حق أي إنسان أن يختار ما يعتنقه أو لا يعتنقه من أفكار وأديان، أو أنه "يدعم المثلية" وهي مغالطة أخرى فالعمدة المنتخب في سياق أميركا ليس إمام مسجد دوره أن يفتي لناخبيه، كما يريده هؤلاء، وإنما موظف مسؤول أمام كل مواطنيه، عليه أن يضمن حقوقهم وقبلها حرياتهم طالما لم يخرقوا القانون، موفراً لهم الخدمات الأساسية وهذه حدود وواجبات عمله لا أكثر ولا أقل. تلك أولويات القادة المنتخبين في بلاد حرة أساس الوصول إلى قيادتها انتخابات جادة وليست حالة تنتهي إلى مقاطع ريلز ساخرة، ويفترض أن ما جرى خلال العامين الماضيين غير من إدراكنا ونظرتنا وقراءتنا للواقع المركب في عالم يتداعى قيميا وقانونيا، فقد ساهم عرب في نجاح دونالد ترامب وحزبه بذرائع كالتي يصمون زهران بها اليوم، والنتيجة ما رأيناه من وحشية لم نستطع نحن وقبلنا هؤلاء "الجهابذة" الذين يظنون أنهم يقومون بدور زرقاء اليمامة، منعها أو حتى التخفيف منها وإدخال الطعام والشراب لأهلنا المحاصرين بالموت والجوع، فكان أن قضى منهم حتى اليوم 69 ألف فلسطيني ناهيك عن الجرحى والمفقودين والأسرى، بينما لدينا اليوم زهران الفخور بانحيازاته لقضايانا واقفا معنا مدافعاً عن أفكاره بصلابة في مواجهة لوبيات المال والأعمال التي  تحاربه وللمفارقة انطلاقا من الذرائع ذاتها، وعلى رأسهم الملياردير إيلون ماسك الحالم هو الآخر ليس بالخدمة العامة، وإنما بنيل حزمة مالية من شركة تسلا، تبلغ ترليون دولار بينما ينام مشردون أمام أكبر مؤسسات نيويورك المالية في مفارقة جعلت البابا لاوون الرابع عشر يعلق على الأمر، مشيراً إلى راتب ماسك كمثال على الفجوة بين الأغنياء والفقراء. أليست هذه القضية أولى لاستلهامها والتركيز عليها والتفكير في مآلاتها التي نعيشها في أوطاننا المنكوبة بتحالفات الاستبداد ورجال الأعمال، بدلاً من تشتيت الجماهير عبر أنماط من التفكير الديماغوغي المضلل الذي يخلق رأياً عاماً لا يمكنه تقدير ما حوله بفعالية وحرفية؟ 
بتاريخ:  2025-11-06


التعليقات على الموقع تعكس آراء كتابها ولا تعكس آراء الموقع.
يمنع أي لفظ يسيء للذات الالهية أو لأي دين كان أو طائفة أو جنسية.
جميع التعليقات يجب أن تكون باللغة العربية.
يمنع التعليق بألفاظ مسيئة.
الرجاء عدم الدخول بأي مناقشات سياسية.
سيتم حذف التعليقات التي تحوي إعلانات.
التعليقات ليست للتواصل مع إدارة الموقع أو المشرفين. للتواصل يرجى استخدام صفحة اتصل بنا.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
يجب ملىء حقل الاسم.
يجب ملىء حقل العنوان.
يجب ملىء حقل الرساله.
الاكثر مشاهدة
للاعلى تشغيل / ايقاف للاسفل